Sunday, January 24, 2010

لم يعد الحديث عن العولمة وتداعياتها في المجالات كافة مستغرباً في الأوساط الفكرية والبحثية. لا بل ربما فاض هذا الاهتمام بالعولمة إلى حد المبالغة في بعض الأحيان – مثل ما حصل مع كثير من الظواهر الأخرى والتحولات التي شهدها العالم في القرنين الماضيين.


وإذا كان من المعلوم ان للعولمة ثلاثة مستويات سياسية واقتصادية وثقافية. فإن هذه الأخيرة تتسم بما يمكن أن نطلق عليه القوة الناعمة التي تحدث تأثيراتها. بهدوء وهي تتسلل إلى الأفكار والعادات والقيم...

ففي الجانب الاقتصادي على سبيل المثال تبدو المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي – وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية والتكتلات الاقتصادية الكبرى، وهي تقود العولمة الاقتصادية، لتفرض نموذجها في التجارة والاقتصاد والتبادل التجاري..

وفي الجانب السياسي ثمة دعوات واضحة وأكيدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق إلى ضرورة انتقال شعوب العالم وحكوماته إلى نظام سياسي جديد أساسة الديمقراطية الغربية، والليبرالية، والفردية، وحقوق الإنسان.. حتى أن الحرب على العراق ، واحتلاله، وتدميره وتفتيته إنما استخدمت فيها ذريعة فرض الديمقراطية، مثل ما استخدم المحافظون الجدد في واشنطن، ذريعة تغيير البنى والهياكل السياسية والاجتماعية لولادة الشرق الأوسط الجديد بحسب تصوراتهم.

أي أن العالم، ونحن جزء منه في بلداننا العربية، شاهدنا بأم العين كيف تعمل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في إطار العولمة التي تقودها الولايات المتحدة اليوم.

أما المستوى الثقافي فهو الأقل قسوة من حيث التأثير المباشر لكنه الأشد خطورة لأنه يشكل فضاء واسعاً يتنفس فيه الجميع ولا يقدم نفسه مشروعاً يتحدى مشاريع أخرى، والتحولات التي تحصل على هذا الصعيد تحولات بطيئة، لكن النتائج التي قد تترتب عنها يمكن ان تغير مجتمعات بأسرها. ولذا يتحدث الباحثون في مجالات علم الاجتماع والدراسات الحضارية والثقافية عن مراحل وعن حقبات مرت بها المجتمعات؛ فنزعة التحديث على سبيل المثال هيمنت على العالم نحو 150 إلى 200 عام. تغيرت في خلالها أحوال الناس وعاداتهم وأنماط عيشهم وتفكيرهم. ولم تكن هذه المرحلة نظاماً اقتصادياً فقط أو تقنياً فقط. بل كانت أسلوب حياة...أما التحول اليوم الذي يسميه (ألفن توفلر) الموجة الثالثة من التغيير والذي بدأ يعم أنحاء الكرة الأرضية، فهو تحول قائم على أساس المعرفة وأخذ يحل تدريجياً محل جهد المزارع والعامل في المصانع.. وهذا بداية شكل جديد من أشكال الحضارة. وهذه الموجات من التغيير هي موجات متداخلة. وهي تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية تؤثر في منظومات القيم وفي الحياة اليومية. وهي تؤثر في طبيعة المعرفة. وهي ليست مجرد عمل ومال وأسرة وسياسة، بل تشمل طريقة تفكير الناس في الزمان والمكان والفضاء والمنطق والسببية والدين والقوة والسلطة. وباختصار فهي تؤثر في الثقافة بعمق. إذ تعزز كل موجة من التغيير الحضاري إطاراً فكرياً. وهو إطار نظري يستوعبه الناس الذي يعيشون في داخله لا إرادياً. وبالنسبة إلى غالبية الناس، فهو يشكل الثقافة التي يقدمونها والعناصر الثقافية التي يجلبونها من ثقافات أخرى وتلك التي يصدرونها إلى ثقافات أخرى (توفلر). أما بول كيندي فيتحدث عن الاختلاف في سرعة التحول. فيقول أن الزراعة استغرقت من تسعة الآف إلى عشرة  آلاف عام لتنتقل بسرعة كيلومتر في السنة من الشرق الأوسط إلى شمال أوروبا. وهو تحول بطيئ ومتدرج للغاية. ولكن تطلب عصر التصنيع من قرنين إلى ثلاثة قرون فقط ليعبر جزءاً من آسيا. أما الموجة الثالثة، أو الموجة الجديدة من التغيير فلا تقاس بالألفيات أو بالقرون بل على الأرجح بالعقود. وفي ما يتعلق بالتقنية فهي تقاس غالباً بالوقت الحقيقي وبصورة آنية. والسؤال هو حول مدى استعدادنا للتكيف مع هذا التغيير؟

هذا السؤال حول مدى الاستعداد للتكيف مع هذا التغيير المتسارع مطروح على مستوى العالم ككل. وليس علينا وحدنا في الدول العربية والإسلامية.

وفي محاولات الاجابة سوف نلاحظ تبايناً واضحاً بين الآراء والاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية. ففي بلداننا العربية ثمة من يلقي اللوم فورا" على ثقافتنا المتخلفة التقليدية التي لا تريد مواكبة العصر وعلى برامجنا التعليمية الجامدة التي تعجز عن التكيف مع ما يجري حولها.  ,وثمة من يعتبر ان اللحاق بركب التكنولوجيا هو المدخل الوحيد لتقدم مجتمعاتنا في هذا العصر.ويكتسب هذا الاتجاه المزيد من القوة مع التقدم المتسارع للتكنولوجيا ومع سطوتها المتزايده على كل مناحي الحياة الفردية والاجتماعية.

لكن التفكير انطلاقا"من مجتمعات مثل المجتمعات العربية او الاسلامية يثير اسئلة كثيرة حول التكنولوجيا واولويات استخدامها في مشروع النهضة والتقدم. ومن ذلك على سبيل المثال :هل مشكلة مجتمعاتنا الرئيسة هي النقص في استخدام التكنولوجيا ؟

وهل التقدم التكنولوجي معزول عن التقدم في المجالات الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟

وهل استخدام التكنولوجيا في التعليم او في غيرة من الانشطة الانسانية هو هدف بحد ذاته ،أم انه يخضع للأهداف التي يضعها اي مجتمع لنفسه؟

لقد كتب البعض عن تأثير التطور التكنولوجي في الولايات المتحدة على قراراتها السياسية والعسكرية ،بحيث بات الكثيرون في الدولة العظمى يعتقدون بأن قوة دولتهم التكنولوجية المتطورة والمتفوقة تسمح لها بخوض الحروب التي تريد وتحقيق الانتصارات بفضل تلك التكنولوجيا ومن دون خسائر في ارواح جنودها.(وهو ما يطلق عليه احد المؤلفين وهم التحكم لدلالة على فشل هذا الاعتقاد) .أي ان الولايات المتحدة تريد ان تجعل من التكنولوجيا وسيلة للسيطرة وللهيمنة ولشن الحروب الرابحة على من تعتبرهم خصومها...

وهل كل ما يتردد من أفكار ومقولات في سياق العولمة يجب ان يفرض علينا اعادة النظر في كل ما نعرف وما نفكر فيه؟

وهل ما وصلت اليه العولمة في معظم المجالات هو نهائي ولا عودة عنه؟ حتى يأخذ به الانسان بكل ثقة ومن دون أي تردد؟  

الى الاسئلة السابقة يمكن ان نناقش فرضية التكنولوجيا والتقدم من زاويتين:

-                           الأولى تتعلق بطبيعة التغير نفسه الذي يحصل ،ليس فقط على مستوى السرعة بل على مستوى القيم والأفكار وأنماط العيش التي وصل إليها هذا التغير. وما إذا كانت هي القيم والأفكار التي ينبغي اللحاق بها. ولإية أهداف. وبحثا" عن أي مستقبل للإنسان.

-                           أما الثانية فتتعلق بطبيعة المعرفة والتربية والتعليم والثقافة ومستوياتها في بلادنا العربية وضرورات التكيف مع التغير من جهة ،واولويات هذا التكيف واهدافه.

 لا يمكن أن ننكر السرعة التي تحصل فيها التغيرات في عالم اليوم. والأمثلة على التغير في نمط حياة الإنسان مع التطوير المتزايد لتقنيات الاتصال أكثر من تحصى في أماكن العمل، والمواصلات، والبيوت، والتعليم، وسواها...

        ولكن السؤال الذي يطرح في كثير من الدوائر الفكرية والفلسفية في العالم، هو إلى أي مدى حقق كل هذا التقدم إنسانية الإنسان؟

        فماذا يعني أن يبلغ عدد الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض 500 قمر صناعي وهناك ما بين 1500 إلى 1800 قمر ما تزال تحت التصميم. يخصص ثلاثة أرباعها للإستهلاك التجاري، وتعمل على تشغيل الهواتف المتحركة، وبث المزيد من القنوات الفضائية؟ ( 40 مليون شخص يومياً على شبكة الانترنت!)

        إن ما تقوله التقديرات في هذا المجال إن هذا التطور حصل بسبب المصلحة التجارية التي تريد ربط جميع الناس بالشبكة. بحيث يمكن ترويج البضاعة بينهم وإرسال الفواتير إليهم. ومن مصلحة كل من يريد أن يبيع بضاعته أن يحدث ذلك. إذاً المطلوب أن يتحول الإنسان إلى مستهلك. وعليه أن يشاهد القنوات التلفزيونية أكثر، ويستخدم الأنترنت والهواتف النقالة المتطورة أكثر، ليشتري أكثر...

        لا نقول ذلك لنقلل من أهمية هذا التطور التكنولوجي المهم. بل لنحدد ماذا نريد من استخدام هذه التقنيات المتطورة وكيف نجعلها في خدمة أهدافنا الإنسانية بدل أن نتحول نحن إلى أهداف لها. فإذا كان إنتاج التقنيات واستخدامها قاد الغرب باتجاه تحديث داخلي.. فإن سائر الحضارات غير الغربية كان تحديثها خارجياً إلى حد كبير. ولذا ينبغي أن تخضع التقنيات بعد استيرادها إلى قانون ثقافي يختلف عن ما يجري في الحضارات التي ولدت فيها.

        ففي الغرب يمكن امتصاص القطيعة التي أحدثتها التقنيات الحديثة مع التقاليد الثقافية بسهولة نسبية لأن خيوط هذه الحياة التقنية تطورت داخل التقاليد القديمة في الغرب.

        لنأخذ على سبيل ما يحدث للأسرة في الغرب. فهي في التعريف الأميركي الرسمي عبارة عن " أب يذهب إلى العمل وأم تبقى في المنزل مع طفلين دون الثامنة عشرة من العمر يعيشون في المنزل"..  لم تعد هذه الصيغة هي الوحيدة للأسرة أو صيغة كونية وأبدية. بل واحدة من عدة صيغ وأشكال لهيكل الأسرة فقد انتقلنا ( كما يقول توفلر) إلى هيكل اجتماعي جديد يوجد فيه العديد من أشكال الأسرة. إن ما نراه اليوم هو أن لدينا ما يسمى بالأم العازبة او الأب العازب، وهناك أسر مثلية الجنس،و 60 إلى 70% من النساء يعملن، وعليه فإن تعريف الأسرة، " بالأب الذي يذهب إلى العمل والأم التي تبقى في المنزل" سيصبح غير ذي معنى في القريب العاجل. بالإضافة إلى ذلك يقول (توفلر) لدينا معدلات طلاق مرتفعة... ولدينا أطفال ثمرة أنواع مختلفة من الزيجات...

       من هنا ماذا حدث؟.. لم تعد الأسرة ولا حجمها،ولا شكلها، كما كانت في السابق.

      السؤال الذي يفرض نفسه علينا في المقارنة مع ما يحصل في أميركا أو دول الغرب المتقدمة في إنتاج التكنولوجيا واستخدامها، ماذا نريد نحن من الأسرة على سبيل المثال؟ وما هو تعريفها. ما هو الثابت في بنيتها؟ وما هو المتغير؟ كيف نلتقط أثر استخدام التقنيات عليها؟ وما الذي يجب ان نمنعه للمحافظة على ما نعتبره من الثوابت في دورها ووظيفتها او حتى في تعريفها؟ وهل لا تزال هي الوحدة أو الحلقة الأساسية في بنية الاجتماع العربي أو الإسلامي في بلادنا؟ ما هي الشوائب التي يفترض مواجهتها والتخلص منها، تجاه المرأة على سبيل المثال  او في العملية التربوية ؟وهل يمكن ان نقبل نحن ايضا" بأشكال متعددة للأسرة في مجتمعاتنا مع ما يعنيه ذلك من تحولات تبرر هذا القبول ثقافيا"
 واعلاميا" وقانونيا"...؟

      أعتقد أن الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة هي التي تحدد لنا المدى الذي بلغته العولمة على حياتنا الاجتماعية والأسرية. إذ  لا يمكن الفصل بين التقنية وبين تداول الأفكار والقيم الثقافية...  ونحن لا نحتاج هنا الى تكرار المقولة التي باتت تقليدية والتي لا ترفض مبدأ استخدام كل ما هو غربي او حديث...

     إن الجانب المكمل بالنسبة إلينا لهذا النوع من الأسئلة هو عدم التستر على الثغرات والمشاكل التي تعيشها مجتمعاتنا في المجالات التربوية والمعرفية. وهذا بدوره يحتاج إلى نقاش..

     إن النقد الذي يوجه إلى التربية والتعليم في بلداننا واسع ومتشعب.

     لنأخذ على سبيل المثال ما يقوله تقرير التنمية الإنسانية العربية (2003) كنموذج جدي وعلمي في هذا المجال.

     بالإضافة إلى الأمية المرتفعة، يعتبر التقرير أن التحدي الأهم في مجال التعليم يكمن في تردي نوعية التعليم المتاح. ما هي هذه النوعية المطلوبة: تحسين نوعية الحياة وتنمية قدرات الإنسان الخلاقة.

     من أين ينبغي أن نبدأ ؟ من أسلوب التربية داخل الأسرة ومن داخل رياض الأطفال. لأن نوعية التعليم المقدم في معظم رياض الأطفال في الوطن العربي ما زالت لا تلبي متطلبات النهوض بقدرات الأطفال وتنميتها من أجل تنشئة جيل قادر على الإبداع والابتكار. (ص 52 من التقرير) ويضيف التقرير إلى ذلك أوضاع المعلمين والمعلمات والمناهج وأساليب التعليم وسياسات التعليم... التي تحتاج كلها إلى تطوير في نوعيتها...ولكن كيف يمكن الانتقال الى هذا التطوير؟

     يُطرح اليوم بشأن التطوير المتواصل للتعليم في إطار العولمة ثلاثة مفاهيم، ليس فقط على مستوى الأساليب وإنما على مستوى معنى التعليم وأهدافه:

المفهوم الأول هو: جودة التعليم.

المفهوم الثاني: التعليم في الوقت المناسب.

المفهوم الثالث هو التعليم عن بعد. (التعليم للجميع).

   على أساس ان هذه المفاهيم هي التي ستنقل التعليم إلى مرحلة جديدة يصبح اكثر تكيفاً فيها مع متطلبات العصر. أما ما هي متطلبات العصر فهي سرعة التطور التكنولوجي، والتكيف مع هذه السرعة في المجالات كافة. بحيث يصبح الإنسان أكثر إبداعاًً وأكثر إنتاجاً وأكثر التحاماً بحاجات سوق العمل.

     ما هي أبرز الاهتمامات التي يتركز عليها مفهوم جودة التعليم؟

-                           يريد أن يبحث زيادة إنتاجية هيئة التدريس.

-                           العلاقة بين الدراسة وسوق العمل.

-                           عدم كفاءة التعليم في مراحله كافة (التدريب).

-                           النزاهة العلمية..

-                           كلفة التعليم..

-                           مشاركة المؤسسات الخاصة في إدارة وتمويل التعليم.

 ] هناك خلاف حول معايير الجودة – وهناك من يعتبر فلسفة الجودة إضاعة للوقت... وتحول رؤساء الجامعات إلى مدراء شركات يهمهم الأرباح والخسائر.. بدلاً من التركيز على طبيعة المعرفة وأهداف التعليم..).

 والجودة عملية يتم فيها دفع كل جوانب العمل في المؤسسة في اتجاه واحد هو تحقيق أعلى معايير للأداء على النحو الذي يطلبه الزبائن من داخلها أو من خارجها.. (ولكن هناك صعوبة في الاتفاق على تعريفها وصعوبة في الاتفاق على قياسها).


المفهوم الثاني: ما هو التعليم في الوقت المناسب؟

     هي عبارة مأخوذة من عالم الصناعة. وتصف التغيرات التي حدثت في نقل الموارد التعليمية  وايصالها. ويثير هذا المفهوم العلاقة المجازة بين توصيل المنتجات في الوقت المناسب، والتعليم في الوقت المناسب، ويشير هذا التوصيل في الوقت المناسب إلى تغيير جوهري في العلاقة القائمة بين المصنع والمستهلك، فبدلاً من إنتاج العديد من النماذج المختلفة للمنتجات، وتخزين كميات هائلة منها لتلبية احتياجات المستهلك غير المعروفة، فإن التوصيل في الوقت المناسب، يعني تعديل خيارات المنتجات بما يتفق مع رغبات العملاء. إن تقنيات الإنتاج والاتصال والنقل الأسرع والأكفأ تتيح للصناعة إمكانية الاستجابة السريعة للتغيرات التي تطرأ على مستوى الطلب. ويقارن هذا المفهوم بين إنتاج المعرفة في الجامعات  والمؤسسات (المصانع) وتخزين الكتب والمواد الثقافية (المستودعات وتوزيعها على المدارس (المتاجر) لتصل إلى الطلاب (المستهلكين)

أما خصائص هذا التعليم في الوقت المناسب فهي:

-                           سيطرة المتعلم

-                           إمكانية الوصول إلى المعلومات دون ارتباط في الزمان والمكان.

-                           الاستخدام الوظيفي    .



المفهوم الثالث: يستند هذا المفهوم إلى استخدام التكنولوجيا الحديثة (الانترنت) للاتصال بمصادر المعرفة، وللحصول على التعليم من أي جامعة في العالم من دون عوائق. ويفترض هذا المفهوم أنه يحقق تكافؤ الفرص، والتعليم للجميع، وقد تزايد انتشاره في العالم. وبدأت بعض الدول العربية العمل به بشكل خجول. ولا يمكن لهذا النوع من التعليم أن يتحقق من دون قاعدة تكنولوجية تتيح الاتصال بالخارج من دون أي عوائق سياسية أو اجتماعية او ثقافية. لكن ما يؤخذ على هذا التعليم:

-                           عدم قدرته على تحقيق التعليم للجميع بسبب عدم امتلاك الجميع (بلداناً وشعوبا) للتكنولوجيا بشكل متساو.

-                           إن السيطرة على هذا التعليم هي للخبراء في المجال التقني- التكنولوجي، ولأصحاب رؤوس الأموال، قبل التربويين وقبل واضعي الأهداف العامة للتعليم في هذا البلد أو ذاك.

     إن المشكلة في هذه المفاهيم الجديدة للتعليم ليست في الجودة نفسها، ولا في التعليم المناسب، ولا في التعليم من أي مصدر كان. بل في الاستغراق في التقنيات وغياب الأهداف التربوية والاجتماعية والانسانية. بحيث يتحول التعليم إلى سلعة وليس إلى قيمة إنسانية كبرى.. تعلي شأن الإنسان في كل زمان ومكان.

     ثمة من يطرح الأخذ بكل هذه المفاهيم والأساليب الجديدة  لكي نتمكن من المنافسة على الصعيد العالمي. من أجل:

_ إدارة طوفان من المعلومات

إعداد رأس مال بشري الأكثر كفاءة للأسواق المعتمدة على الابتكارات العقلية.

- إعداد الموارد البشرية المرنة في مواجهة حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي.

- الابتكار من أجل مواكبة اقتصاد تنافسي ذي سرعة فائقة قائم على المعرفة.

     ان الملاحظة الاساسية التي نسوقها حول هذه المفاهيم والمصطلحات التي تريد تطوير التعليم في اطار العولمة انها تجعل من التعليم سلعة بكل معنى الكلمة. ويكفي ان نكرر وصف الجودة والنوعية وفي الوقت المناسب والسرعة حتى يتبين لنا هذا الايحاء المباشر بين التعليم وبين السلعة التي ينبغي ان تقدم الى المستهلك في اسرع وقت ممكن .لكن ذلك لا يعني عدم الاهتمام بتطوير نوعية التعليم او جودته او اساليبه في بلداننا .بل طرح الاسئلة المتعلقة باهداف هذا التطوير التي  لا ينبغي ان تكون للمنافسة فقط او للتسويق باسرع ما يمكن ....فنحن لا نعتقد بان هذا هو سبيل التقدم .علما" بأن مثل هذه المنافسة او السرعة قد لا تكون متاحة اصلا" في عالم الاحتكار وهيمنة الدول الكبرى والشركات الكبرى في المجالات كافة.

إن السؤال المطروح في إطار هذه التحديات المهمة التي لا يمكن لأحد أن ينكر ضرورة الأخذ بها والتعامل معها، هو التالي:

    ماذا لو قرر خبراء الاقتصاد في هذا البلد (العربي أوالاسلامي او ذاك)  أن الخصخصة على سبيل المثال  غير ملائمة له على المستويات الاجتماعية ...؟ فهل يعتبر مثل هذا التفكير تخلفا" عن العولمة ونكوصا" عن المنافسة العالمية ؟ وهل يمكن لهؤلاء الخبراء المضي في هذا الخيار؟

     وماذا لو قرر العلماء استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية،  حتى لا تبقى حياة الناس رهينة النفط الذي قد ينضب يوما" ما؟ فهل بامكان الحكومات ان تحقق هذا الهدف اذا لم تقبل به الدول الغربية وما يسمى "المجتمع الدولي"؟

ثم ما هي الأهداف من هاجس المنافسة العالمية؟ ما هي تجارب البلدان الأخرى التي دخلت أو لم تدخل في هذه المنافسة؟

وما هي وظيفة العلماء والمتميزين والنوابغ الذين يفترض ان يتخرجوا من المدارس والجامعات في بلداننا؟ الا يجب ان يكون اعدادهم جزءا" من خطة تنموية شاملة تحدد كيف واين يمكن الاستفادة من هؤلاء العلماء؟ وإذا لم تتوفر هذا الخطة فإن مثل هؤلاء العلماء سوف لن يترددوا ولو للحظة واحدة في البحث عن تحقيق طموحاتهم في بلدان أخرى كما يحصل للكثيرين منهم اليوم.؟

ولنفترض ان مثل هؤلاء العلماء قاموا بواجباتهم العلمية وتمكنوا على سبيل المثال من انشاء مفاعل نووي كما فعل علماء العراق في مطلع الثمانينيات.فمن يحمي هذا الانتاج العلمي المهم او سواه اذا حصل اعتداء عليه من دولة اخرى كما فعلت اسرائيل مع مفاعل تموز العراقي عام 1981؟

ثم من يستطيع ان يجزم بأن استخدام التكنولوجيا المتزايد (الانترنت والهواتف المحمولة) هو دليل تقدم وانخراط في تحصيل المعرفة ومواكبة لما يجري على هذا الصعيد في العالم؟

تقول بعض احصائيات عام 2001 ان عدد مستخدمي الانترنت في العالم العربي بلغ 3,5 مليون من اصل 290 مليون.وربما وصل هذا العدد عام 2003 الى 10 ملايين .وهذا تطور مهم في مجال استخدام التكنولوجيا الحديثة. ولكن نحن لا ندري ماذا يفعل هؤلاء المستخدمين للانترنت : هل يبحثون عن المعرفة لاعداد الدراسات والابحاث او يدخلون الى المواقع للدردشة ،او للتسلية ،او للبحث عن المواقع الاباحية ،او لأهداف اخرى متنوعة. ان معرفة ما يفعله مستخدمو الانترنت هو المقياس الذي يسمح بالقول بأن تقدما" يحصل على هذ الصعيد . اما مجرد احصاء عدد المستخدمين وتزايد نسبتهم ،فلا يعني شيئأ، بل على العكس ربما كان مؤشرا" سلبيا".

وتشير الاحصاءات السابقة نفسها الى ان عدد مستخدمي الانترنت في دولة الامارات بلغ 220 ألفا".في حين بلغ في مصر 70 ألفا" وفي لبنان 75 الفا".فهل تعني تلك النسب ان دولة الامارات أكثر تقدما" على الصعيد العلمي او على صعيد اعداد المتميزين والنوابغ ومن يقدر على مواكبة التحولات العلمية والمعرفية في العالم من لبنان ومصر على سبيل المثال؟ لايمكن الجزم بهذا الأمر لأن عدد مستخدمي الانترنت لا يمكن ان يؤشر الى مدى التقدم العلمي الذي يحصل في المجتمع.

إنها أسئلة لا بد من الإجابة عنها قبل الدعوات المتسارعة إلى "تكنولوجيا التعليم " والى تغيير البنى والهياكل التعليمية والاقتصادية والاجتماعية لنصبح كما يردد الكثيرون، اكثر انسجاماً مع العولمة ومع اقتصاد السوق واقتصاد المعرفة.أو أكثر استعدادا" للمنافسة العالمية.!

       والى هذه الهواجس "التكنولوجية" ، في التربية والتعليم ,ثمة من يطرح من الباحثين العرب على المستوى التربوي أيضاً ضرورة أن يتخلص العرب من الأوهام التي تسيطر على التربية مثل وهم الهوية، أو وهم الاحساس بالاضطهاد العالمي للعرب، أو وهم الخوف من الحداثة والديمقراطية. إلى من يدعونا إلى تغيير البنى التربوية والتعليم الديني لتكون أكثر تسامحاً وأقل تطرفاً وأقل كراهية للآخر. باعتبار أن هذا العصر هو عصر التواصل الثقافي والانفتاح الحضاري، وهو عصر حل النزاعات بالطرق السلمية وأن الديمقراطيات لا تتقاتل في ما بينها.. وأن من لا يعمل من أجل هذا التغيير في تلك البنى والتخلص من تلك الأوهام ينتمي إلى عصر ما قبل العولمة. وهو عصر قد باد. وليس لأصحابه مكان في حركة التاريخ.

     تحتاج كل هذه الدعوات إلى نقاش مستفيض. لأنها تقع في قلب العملية الثقافية التي تمس طرائق التفكير والتربية وأنماط العيش والعلاقة مع الذات ومع الآخر.

     وإذا كانت البرامج والمناهج التربوية تحتاج فعلاً إلى إعادة نظر وتغيير ما فيها من أفكار أو دعوات إلى الانغلاق أو التكفير. فإن ما لا ينبغي تجاهله  هو مصدرعدم التسامح في عالم اليوم. فهل الدول الصغيرة والضعيفة هي هذا المصدر أم أنها الدول الكبرى القوية عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً وتكنولوجياً! وهل حل النزاعات بالطرق غير السلمية هو ما تتمسك به بلدان الجنوب والبلدان الفقيرة أو بلدان الشمال عموما" والولايات المتحدة خصوصا"؟

     وهل نجحت العولمة في توحيد ثقافات  الشعوب، ليطلب منا التخلي عن وهم الهوية، أم أن هذه العولمة اشعلت المشاعر القومية والوطنية والدينية بعدما حاولت طمس هويات الشعوب وعاداتها ودعتها إلى أن تكون نموذجاً واحداً شبيهاً بالنموذج الغربي (الأميركي) الذي تقدمه وسائل الإعلام ووسائل الاتصال المختلفة؟ وإذا كانت بلداننا تحتاج فعلاً إلى ديمقراطية سياسية واجتماعية، فهل نلام اذا تحفظنا على الطريقة التي تريد الولايات المتحدة على سبيل المثال أن تفرض بها هذه الديمقراطية.

      وحتى في موضوع المرأة. الذي يعتبر مدخلا غربيا" قويا" للنيل من الثقافة والتربية في مجتمعاتنا فلا  بد من الاعتراف أولا" بان الكثيرمن القوانين والكثير من التقاليد ينتقص من حقوق المرأة في بلداننا. وفي خضم عشرات القضايا المثارة حول هذه القضية  سأكتفي بملاحظات محدودة هي التالية: إن كل المقاييس الغربية تربط بين ما يسمى "مشاركة المرأة" أو "تمكين المرأة" بحجم مشاركتها في عملية الانتاج المادي ،(الوظائف والمواقع الادارية والمهنية المختلفة)، وتستنتج تلك المقاييس من هذة المشاركة  مدى تقدم المجتمع  وابتعاده عن المحافظة والتقليدية...

      ولكن في مقابل ذلك يمكن ان نلاحظ ان هذه المقاييس الغربية الدولية لم تلتفت إلى تقدير وضع المرأة العاملة في بيتها  لتربية أطفالها. لأن هذا العمل غير منتج مادياً على الرغم من أهميته التربوية والاجتماعية.وهذه مشكلة منهجية ومعرفية لا يمكن تجاهلها ،لأن قسما" كبيرا" من نساء العالم يعملن في تربية اولادهن.

      ولم تقل لنا هذه المقاييس على سبيل المثال لماذا لا تعتبر نشاط المرأة الفلسطينية أو المرأة في جنوب لبنان، مشاركة في النشاط السياسي حتى ولو لم تكن هذه المرأة في أي هيئة نقابية ،أو وزارية أو نيابية. فهؤلاء النسوة يتحملن الاحتلال، ويقاسين غياب الزوج واستشهاد الإبن والحصار الاقتصادي والمواجهة اليومية مع الاحتلال. وهذا برأينا ذروة المشاركة السياسية الحقيقية ( حتى لو لم تعترف المقاييس العالمية بها).

لقد شهد العالم في السنوات القليلة الماضية تطورا" لافتا" في قضية مشاركة المرأة خاصة في المواقع السياسية البارزة وتحديدا" في البلدان الاوروبية وفي الولايات المتحدة .فاصبحت وزيرة الخارجية الاميركية إمرأة ، وكذلك وزيرة الخارجية البريطانية ثم وزيرة الدفاع الفرنسية ،والمستشارة الالمانية ، ومن دون ان ننسى وزيرة الخارجية الاسرائيلية ايضا"...والسؤال الذي يعنينا هنا هو التالي :ما الذي تغير في السياسات الاميركية والاوروبية، والاسرائيلية  بعد مجيء هؤلاء النساء الى المواقع القيادية المهمة التي ذكرناها؟ ما هو الفارق بين ما يفعلنه في تطبيق سياسات بلدانهم ،وبين ما فعله من سبقهم من الرجال في هذه المواقع؟ الحقيقة ان لا شيء قد تغير على هذا الصعيد.فما فعلته تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية اثناء العدوان على لبنان في تموز 2006 كان سيفعله ايضا" سلفها سيلفان شالوم. وما تطلقه كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية من تهديد او تلويح بالحرب والحصار ضد من يخالف السياسية الاميركية في المنطقة والعالم لم يتغير في شيء عما فعله سلفها ايضا" كولن باول قبل سنوات.وهكذا...إذا" ما الذي تغير مع وجود المرأة في المواقع القيادية المهمة اذا كانت لن تفعل سوى تنفيذ سياسات بلدها حتى لو كانت تلك السياسات تقوم على الظلم او القهر والاحتلال والحرب والعدوان على الشعوب الاخرى؟ وما معنى تمكين المرأة  اذا كان هذا التمكين سيزيد من العدوان والاحتلال؟ وأي نموذج تقدم المرأة هنا الى النساء الأخريات في العالم؟


إن  ما يحتاج إلى مراجعة وتدقيق هو تلك الدعوات التي تجعل خلاص الشعوب في الالتحاق بالعولمة تربوياً وتعليمياً وثقافياً من دون أي تأمل في أهداف هذا الالتحاق وفي معنى مواكبة العصر. أن ما يحتاج إلى مراجعة وتأمل ليس الدعوات إلى تطوير برامج التعليم ومناهجه أو الأخذ بأسباب التقدم التكنولوجي، أو حتى تغيير طرائق التعليم لتصبح أكثر اعتماداً على العقل بدل التلقين... أو حتى التخلص من كثير من المفاهيم الخاطئة في التربية المدنية أو التربية الدينية. أن ذلك كله هو أمر جيد وإيجابي ومطلوب. لكن ما يحتاج إلى التأمل والتردد هو تلك الدعوات التي تجعل خلاص الشعوب وتقدمها بمجرد الالتحاق بالعولمة وبمجرد تدريب الهيئة التعليمية أو استخدام التقنيات الحديثة بمعزل عن الاهداف التي تريد على سبيل المثال ان تجعل السوق هو القيمة العليا، التي يخضع لها العلم والانسان، بدل أن يكون العلم والانسان هما قيمة الحياة العليا. وما يحتاج إلى تأمل أيضاً هو هل يمكن تطوير التعليم بمعزل عن تطوير المجتمع ككل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية؟

- وما هو موقع التعليم في عملية التغيير. هل هو الذي يقود هذه العملية أم أنه يتلقى التغيير الذي يريده المجتمع وتريده الدولة وسياستها؟

- ثم ما هي اولويات التغيير المطلوبة والملحة، حتى في عصر العولمة؟ هل هي  الأخذ بتقنيات التعليم والتكنولوجيا والتدريب، أم هي الحرية والمواطنة والانماء المتوازن، والسيادة والوحدة الوطنية؟

- هل يمكن لكل دولة عربية على حدة أن تلتحق بالعولمة بمفردها وأن تكون شريكا" في تلك العولمة؟

     إن ما يحتاج إلى تأمل أيضاً هو معنى مواكبة العصر إذا كان العصر نفسه متقلباً والتشكيك في جدواه الانسانية والاجتماعية يشغل المفكرين والفلاسفة الغربيين قبل سواهم.

No comments:

Post a Comment