Wednesday, April 1, 2009

شريعتي: "من أصالة الوعي الى ارادة التغيير."

لا تزال قضية الفرد وأصالته ودوره في التاريخ تشغل الفلاسفة والباحثين على مرّ التاريخ. وكان من الطبيعي ان يتأثر النقاش واختلاف وجهات النظر حول هذا الدور  بالتحولات الدينية والفلسفية والاجتماعية التي عرفتها مجتمعات وحضارات كبرى في أوروبا أو في العالم الاسلامي. وقد تكون قضية الفرد/الانسان من أعقد القضايا التي واجهت الباحثين والدارسين في المجالات الدينية والفلسفية والاجتماعية سواء على مستوى التعريف أو على مستوى المسؤولية أو حتى بالنسبة الى المستقبل والمصير. فمن المعلوم على سبيل المثال أن التحولات الكبرى الفكرية والسياسية والدينية التي حصلت في أوروبا وانتقلت بعدها من ما أطلق عليه "العصور الوسطى" الى "عصر النهضة" أو "عصر الأنوار" هي التي جعلت من مكانة الانسان/الفرد مكانة سامية تتقدم على مكانة المجتمع. بحيث بات الفرد هو الأصل والمعيار. ومن تلك النظرة الفلسفية التي أعلت شأن الفرد وازاحت شأن الدين والارتباط بالغيب اندفعت الأفكار التي اعتبرت حرية الكائن شأنا مقدسا"، بدل المقدسات الدينية السابقة. وبات بعد ذلك على المجتمع ان يكيف نفسه مع ما يمكن ان تصل اليه تلك الحرية سواء في علاقة الانسان مع نفسه او في علاقاته مع الآخرين. أي أن ما حصل في تلك الحقبة التاريخية في أوروبا والذي سيترك أثره وبصماته الواضحة على باقي العالم، قلب المقاييس رأسا" على عقب . فبدلا من تكيف الانسان/الفرد مع المجتمع وخضوعه لثقافة ذلك المجتمع وقيمه وعاداته... بات على هذا الأخير أن يتحول تدريجيا" وأن يغير من قوانينه وحتى من أنظمته التربوية ليتلاءم مع ما بلغته ممارسة الانسان لحريته التي بقيت مقيدة بحد واحد فقط هو عدم التعدي على "حق الآخر"،حتى يتمكن بعدها من أن يفعل ما يشاء.


لم يقتصر الأمر على مجرد انتشار الأفكار او النظريات الغربية حول الفرد وأصالته وحريته، ولتقديم شأنه على أي من المؤسسات الاجتماعية أو التربوية او الدينية بل انتقل الامر الى كل ما له علاقة باطلاق الرغبة الانسانية من قيودها ومن الكوابح التي كانت تتحكم بها. هكذا أصبحت "الحرية" قاسما" مشتركا" لكل دعوات التجديد والتنوير في أوروبا. فالحركة الانسانية حملت راية الدعوة الى الحرية الفنية والى التأكيد على الفردية وعلى الحرية الأخلاقية. ودعت حركة الاصلاح البروتستانتي الى الحرية الدينية، وارادت الحركة العقلانية تعزيز سلطة العقل وحريته على حساب ما هو خارق وغيبي... حتى أن حركة التنوير في القرن الثامن عشرن وأبرز ممثليها أسحق نيوتن وجون لوك شددت على التحول من نعيم المسيحية الغيبي في السماء الى النعيم العقلاني على الأرض(1) وحتى فنون ذلك العصر لم تعد تقيم وزنا للأعراف خلافا لفنون العصور الوسطى التي ارتبطت دائما بالكنيسة(2). وحتى النظرة الى الموت لم تكن بطبيعة الحال، بمنأى عن تلك التغيرات التي تضخمت فيها "انا" الفرد. فأصبحت الحياة هي اللحظات التي نعيشها فقط والتي علينا ان نحصل فيها على اللذة والسعادة بعيدا من الغيب والآخرة... حتى أصبح شعار "عش لحظتك" هو الشعار المهيمن لرجل عصر النهضة(3) ويكفي أن نراقب تسارع حركة تشريع "كل أشكال الأسرة" في الغرب والتي تريد القول أن الشكل التقليدي للأسرة (الأم ، الأب، الأولاد) لم يعد هو الشكل الثابت او الضروري حتى يتبين لنا كيف يخضع المجتمع الغربي وتشريعاته وقوانينه الى ما يمكن ان تبلغه حرية النزوات والرغبات الفردية التي تبرر "الزواج المثلي" بتوافق الرغبة بين طرفين، وليس بأي ثوابت دينية أو أخلاقية او اجتماعية. وتوافق الرغبة هنا يعني انتفاء الاكراه. أي اباحة كل ما يمكن ان تصل اليه القدرة او حتى الخيال في طرق اشباع الرغبة...

اعتبر الغرب، أن تجربته التي مر بها ولا يزال يعيشها، هي التجربة الأفضل والأصح. ولأن الغرب هو الأقوى، وهو المهيمن في العلاقات الدولية على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، فقد أراد من دول العالم الأخرى ان تلحق بتجربته ورؤاه حول الفرد والمجتمع والأسرة والرغبة والمرأة...وبات المسؤولون الغربيون يرفعون سوط التهديد والعقوبات في وجه الدول والمجتمعات –غير الغربية- التي لا "تحترم" المرأة ولا تبيح زواج المثليين،ولا تطلق الحريات كافة ولا تكف عن العنف داخل جدران بيوتها...اما معايير هذا الاحترام ومستويات الصواب والخطأ والرفض والقبول، فهي التي تتطابق* مع معايير التجربة الغربية. ليس فقط وفقا" لبداياتها النظرية والفلسفية، بل حتى وفقا" لما بلغته في يومنا هذا. ومن غير المعلوم الى أين يمكن أن تصل هذه التجربة في العقود القادمة.

تأثر الكثيرون ب"فكرة الغرب" وذهبوا الى اعتبارها نموذجا" وسبيلا" أكيدا" الى النهضة والتقدم، اذا ما تخلى المجتمع عن "ثوابته" ودينه وقيمه، وأرخى العنان لأصالة الرغبة...ما يتيح لأي مجتمع تكرار تجربة "العقلانية" و"التصنيع" والتطور التكنولوجي التي عرفها الغرب في العقود الماضية... هكذا انشغل المثقفون، عربا ومسلمين منذ أكثر من قرن ونصف ب"قضية الغرب". حتى باتت هذه القضية هي معيار التهم المتبادلة بين ثنائيات لا تنتهي: أصالة وتغريب، وتقدم وتخلف، وتبعية واستقلال...

كان علي شريعتي واحدا" من أولئك المفكرين الذين عاشوا في الغرب وانتقدوا مرتكزاته النظرية وتجربته التاريخية. وهو من الذين انتقدوا في الوقت نفسه مرتكزات وتجارب مماثلة في موطنهم –ايران- حيث عاش شريعتي ابان حكم الشاه، قبل أن يحل عليه عقاب النظام الاستبدادي ويرغمه على مغادرة بلاده الى اوروبا، حيث ارتحل من هناك الى جوار ربه...

لم يقبل شريعتي "فكرة" الغرب كما هي. ولا رضي بتلك الأصالة التي جعلت الفرد فوق المجتمع، والعقل فوق الاله. فالله عز وجل كما يقول شريعتي: "أنشأ المخلوقات كلها في الوجود، وفي ما يخص الانسان فان الرسالة الالهية والخلقية سلمت بيد الانسان وفوض من قبل الخالق جلّ وعلا، وتهدف تلك الرسالة الى بناء الذات..."(4) أي أن الانسان كما يراه شريعتي مفوض، والتفويض في المنظور القرآني، هو الخلافة "اني جاعل في الأرض خليفة". وبهذا المعنى ان نقطة الانطلاق ليست مفهوم الحرية أو اصالة الرغبة التي قد تتحول الى اله جديد يهيمن ويسيطر وتُذل له الارادات والجباه. نقطة الانطلاق بحسب شريعتي هي التفويض الالهي التي لا تنفصل فيه فلسفة الانسان عن الله. "وهذا ما وقع فيه فلاسفة ما بعد  الحرب العالمية الثانية التي عانت فيها أوروبا من الأزمة الفكرية المطبقة ليفصلوا فلسفتهم عن الله، فأَضحت وجوديتهم مجردة من الله"(5)

لا يعني تفويض الانسان، ان هذا الأخير عاجز أو مستسلم. ولعل شريعتي يختلف في هذا التصور عن اولئك الذين قالوا بلا ارادية الانسان. فهذا الأخير بالنسبة اليه "هو المخلوق الوحيد في الطبيعة الذي يشعر بذاته، يعرف الطبيعة، ويفكر، لديه الارادة، يختار، يتمرد ضد ما يراه ظلما بحقه، ويغيّر السنّة المفروضة للطبيعة، ويسعى ان يفرض النظام الذي يرتأيه على النظام الموجود، يصنع ويبدع ويخرب على خلاف جميع الكائنات، مفكر ومبدع وصانع وعاصٍ وواعٍ لنفسه ولما يحيط به..."(6). ان الأصل بحسب هذا التطور هو ارادة الانسان. هذه الارادة هي التي تصنع الحضارات وتبدعها او تحطمها وتهوي بها الى أسفل المدارك. هذه الارادة هي الانسان. من يتخلى عن ارادته يتخلى عن انسانيته، بغض النظر عن العصر الذي نعيش فيه.

لا يتجاهل شريعتي ما يصنعه محيط الانسان به وما يتركه نوع عمله عليه من تأثير وفروقات. لا بل يذهب في ذلك الى تأكيد النظريات السوسيولوجية المعروفة "الانسان يكسب خصوصياته من نظامه الاجتماعي". لكن شريعتي يصرّ رغم ذلك أن "رسالة الانسان هي أن يقوم بتكييف المحيط حسب حاجته ومثاله المطلوب... وحتى لو كان وليد الطبيعة نفسها يمكنه لو شاء ان يسلك دربا خلاف ما رسمته الطبيعة له... وأن المخلوق الذي يفتقر الى الارادة والوعي كالحيوان والبنات لا يمكنه ان يتمرّد"(7)

لا يكتفي شريعتي بالمقارنة بين المذاهب الفلسفية والاجتماعية من الانسانوية الى الماركسية  والوجودية، بل ينتقد تلك المذاهب مبينا عجزها عن تقديم الاجابات الشافية في فهم الانسان. فيرى على سبيل المثال أن البروتستانتية والرأسمالية والماركسية والفاشية تشترك جميعها في قرابة أساسية هي المادية. وان " هؤلاء الأخوة الأربعة، ترعرعوا في أسرة واحدة هي الغرب..."(8) ولا يخفي شريعتي في هذه المقارنات انحيازه الى الايمان بالغيب، باعتبار هذا "الغيب" روح الوجود وحقيقته المطلقة."..

كان شريعتي من أولئك المثقفين الذين حافظوا على "ذاتهم" في ذروة انبهار "العالم الثالث" بالغرب. وكان من الذين ينشدون التغيير ويدعون اليه جهارا في بلده ايران، استنادا الى رؤيته الفلسفية لاصالة الارادة الانسانية ولفهمه الاجتماعي-السياسي لدور المثقف، ولايمانه بالغيب الذي هو "روح الوجود وارادته المطلقة". وهو لهذا السبب يستحضر الاسلام في نقده لماركس الذي يعتبر الدين والعبادة مظهرا للذل والبؤس والاغتراب عن النفس، بقوله أن العبادة في الاسلام هي سبب نمو الانسان وتكامله الالهي بحيث ترادف "معرفة النفس" و "معرفة الله"، وحتى ان الأولى هي مقدمة للثانية"(9). وهو ينتقل الى مستوى آخر من المقارنة عندما يقول بأن علينا "الا ننسى أن ايديولوجية الغرب الاستعمارية كانت تروج لفكرة تمدين الشعوب المختلفة، ونقلها الى التقدم العلمي والتكنولوجي والرفاه الاقتصادي، بواسطة المستعمر المتمدن"(10).

يستند شريعتي الى "مسؤولية الانسان" ليعيد التأكيد على فكرة "التكامل" التي لا تتحقق الا بالمسير نحو الله جل وعلا، ويتحمّل عبء الخلافة التي فوضها الله الى الانسان. ومن هذه المسؤولية يتطلع شريعتي الى دور المثقف فلا يراه فرداً معزولاً يعيش في صومعة بعيدة من الناس. هذا بالنسبة الى شريعتي ليس المثقف. وهو ليس "ذلك الشاب أو الطالب الذي سافر الى أوروبا وتعرف على المدارس الاجتماعية والسياسية والايديولوجيات الفلسفية ثم رجع وقد اصبح مثقفا"...إن من فعل ذلك بإمكانه ان يدرس تلك العلوم في الجامعة . ومثل هذا الشخص لا يستطيع ،لمجرد انه درس تلك الايديولوجيات،ان يقوم في مجتمعه بدور خاص . وان يأخذ على عاتقه بث الوعي في الناس، وتحليل الامراض الاجتماعية...(11)"

ما يطرحه شريعتي حول دور المثقف لا ينفصل عن رؤيته الفلسفية لدور الارادة الانسانية في عملية التغيير. فالمثقف الذي ابتعد عن "التكامل" مع مجتمعه، لا يستطيع ان يشخص امراضه التي يعاني منها. ولذا يفترض شريعتي أنه لا يوجد نمط ثابت وعالمي للمثقف. (خلافا لما يفعله الكثيرون عندم يقلدون المثقف الغربي في أطروحاته الفكرية والايديوليجية وفي تفسيره لقضايا مجتمعه). بل يوجد مثقفون. فالمثقف في افريقيا السوداء قد لا يصلح لشيء اذا جاء الى مجتمع اسلامي. اذ سيصبح غريبا ومشلولاً وكذلك الأمر مع مثقف أوروبي أو غربي.(12)

خاض شريعتي تجربة مباشرة في ايران ابان حكم الشاه الاستبدادي، كمثقف يبث الوعي بين الناس. فألقى المحاضرات في "حسينية ارشاد" الى جانب علماء كثر امثال الشهيد مطهري، وتحدث الى الطلاب في جامعة طهران عن ضرورة التغيير وعن رفض الاستبداد. وانتقد بعض مظاهر التدين وبعض ممارسات رجال الدين. أي ان شريعتي حاول أن يكون مصداقأً لنظريته في "ارادة الانسان" التي تستطيع تغيير ما حولها. ولهذا يعتبر ان أعظم مسؤوليات المفكر في مجتمعه" هي ان يجد السبب الأساسي والحقيقي لانحطاط المجتمع. ويكتشف السبب الاساسي للركود والتأخروالمأساة...ثم يقوم بعد ذلك بتنبيه مجتمعه الغافل... ويبدي له الحل والهدف واسلوب السير الصحيح... حتى يتخلص من هذا الوضع... ويحصل على الحلول اللازمة على أساس امكانيات الشعب واحتياجاته، والآمه، وعلى أساس الثروات الموجودة في مجتمعه..."(13) ويشدد شريعتي كثيراً على فكرة الوعي". ويعتبرها مقدمة لارادة التغيير عند الأفراد والجماعات. ويرى دور المثقف في بث هذا الوعي. اذ من دونه لا يمكن ان يحصل أي تقدم. وقد تبقى احوال المجتمعات على ما هي عليه مئات السنين...

مارس شريعتي بنفسه هذه المهمة التي أعتقد بأنها دور المثقف في المجتمع. وشهد له بذلك كبار الشخصيات ممن شاركوا في الاعداد للثورة. فيقول عنه الشيخ هاشمي رفسنجاني "كان شريعتي من الذين خدموا هذه النهضة. وقد تركت نشاطاته تأثيرا على طبقة واسعة لم تكن نحن على تواصل معها...وكان عارفا بالحالة الروحية لجيل الشباب لذلك استطاع  أن يؤثر في المجتمع..."(14) ويقول عنه الشهيد مصطفى شمران:"إن الدكتور علي شريعتي قد دفع بالمسيرة التكاملية للجهاد في سبيل الحق والعدل سبعين عاما الى الامام... ثم يتوجه شمران الى الله سبحانه وتعالى قائلا: "...وانت ايها الرّب الكبير قد منحتنا (علي) لتعلمنا طريق العشق والفداء...ليحترق كالشمع وينير لنا الدرب... قسما بالعدل، بالعدالة، انك –علي شريعتي- كالموج المتلاطم تغلي في نداءات المظلومين ضد الظالمين..."(15)

هكذا يرى شريعتي "أصالة" المثقف في ارتباطه بمجتمعه وبمعرفته لثقافة ذلك المجتمع. فاذا ابتعد عن تلك المعرفة او ضل السبيل اليها حصل الاغتراب عن الذات وضاعت الأصالة ووقع الانسان في التبعية للغرب المسيطر . لذا يقول شريعتي "علينا ان نعرف نمطنا الثقافي"، فالنمط الثقافي لليونان نمط فلسفي، وللرومان نمط فني وعسكري، والنمط الثقافي للصين نمط صوفي... اما النمط الثقافي عندنا فهو النمط الديني الاسلامي"(16). ومن هنا على المفكر ان يفهم أن الاسلام هو الذي صنع تاريخ مجتمعه وقاعدته الاخلاقية... واذا لم يدرك هذه الحقيقة الواقعة "كما فعل أغلب مفكرينا" فسوف يسقط... واذا اعتبر نفسه مجردا من العقائد الدينية وتنفس في جو اوروبا القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فسوف يسقط فريسة للخطأ في معرفته للناس وتفاهمه معهم"(17).

أدرك شريعتي مبكرا ما يصيب المثقفين في بلادنا من تضخم "الأنا" بحيث يعجز هؤلاء عن ادراك خصوصية المجتمع الذي يعيشون فيه، ويذهبون الى تقليد النموذج الغربي في تهميش الدين ومعاداته. وما يقلق شريعتي ان "مقاومة المثقف للدين" في المجتمع الاسلامي، يخيف الناس من المفكرين، فتنفض عنهم، وتلجأ الى قوى رجعية منحرفة واستعمارية تتظاهر بحماية الدين. ومن هنا تنقطع العلاقة بين المثقف وبين الناس ويبقى وحيداً."(18)

ان مسؤولية المثقفين ودورهم في العالم اليوم يشبه بحسب شريعتي الدور الذي كان يلعبه الائمة وقادة التغيير، أي الأنبياء والرسل وائمة المذاهب...ان مسؤولية المثقف هي في مواصلة النداء، نداء الوعي والخلاص والانقاذ...وفي اضرام نيران جديته في مجتمعه الرّاكد..."(19)

كان شريعتي من القلائل الذين أقاموا الصلة بين تفكيرهم الفلسفي-الاجتماعي وبين ادراك الواقع والدعوة الى تغييره. كان "اصلاحيا" يرى في "العودة الى الذات" سبيلا لا محيد عنه لتحريك عجلة الاصلاح. وكان بسبب اصراره على مقولات الارادة والوعي والعودة الى الذات من أجرأ الاصلاحيين في نقد الموروث الذي يكبح التغيير ويرضى بسلبيات الواقع. ولذا كان يشدد دائما على الفهم الاجتماعي-السياسي للاسلام،في الوقت الذي كان يؤكد فيه دوما على تمايز نظرة الاسلام الى الانسان الذي فوضّه الله سبحانه وتعالى بالخلافة، ومنحه القدرة على الوعي والتفكير لتغيير الواقع خلافا لباقي المخلوقات.

أن الفيلسوف الحقيقي بالنسبة الى شريعتي هو "صاحب النظرية الاجتماعية، والمسؤول في وسط الصراع". ولذا هو ينكر على الفيلسوف تعاليه واحجامه عن خوض المسائل الاجتماعية المباشرة. وهو يرفض الفكرة التي تقول بأن الفيلسوف لا يكون فيلسوفاً حتى يكون نظرياً، لأن شريعتي يعتبر الانبياء أعظم الفلاسفة –بالمعنى الحقيقي- لأنهم الوحيدون الذين احاطوا بتمام سنن التاريخ"(20). وبدلاً من ان يكتفي شريعتي بالتأكيد على أهمية الوعي في فهمه لفلسفة الانسان، تراه يربط هذا الوعي بادراك اللحظة التاريخية الراهنة. اي ادراك العصر الذي يتحرك فيه الانسان ويعمل فيه المصلح. وعندما يبرهن مدى التزامه هذا "الوعي" بالعصر الذي يعيش فيه يؤكد شريعتي "ان اشكاليات العصر الراهن ترتبط بصورة مباشرة او غير مباشرة بالاستعمار الحديث بالدرجة الاولى وان الآلية المحورية لهذا الاستعمار الحديث هي ما يطلق عليه "الاستحمار" والمقصود بهذا المصطلح كل ما يسلب الانسان وعيه ونباهته..."(21) ولا يفرق شريعتي هنا بين النباهة الفردية والنباهة الاجتماعية، والتي تتلخص بالنسبة اليه ب"وعي الانسان وجوده الفردي والجماعي والتاريخي"، الذي يسميه "الوعي الوجودي". أما ما يمهد لوقوع الانسان في براثن "الاستحمار" فهو التحقير": ان يحقر الانسان نفسه. ان يقبل تحقير الغرب لمجتمعه ولأنظمته التربوية والأخلاقية "حتى بتنا لا نؤمن بقابليات قدراتنا..."بحيث يرى الانسان نفسه عاجزا حتى عن النقد والاستفسار وحتى عن الكلام..."(22)

أصالة شريعتي، تتجاوز كا ما قاله البعض حول تأثره بالغرب. فهو لا يكف عن نقده الشديد والقاسي لأولئك المثقفين الذين قبلوا "بتحقير أنفسهم" فباتوا يفاخرون ليس بأنهم تعلموا اللغة الاجنبية فقط، بل بأنهم نسوا لغتهم الأصلية!

"أي شيء عمل بنا الغرب نحن المسلمون، نحن الشرقيون؟ استحقروا ديننا ولغتنا وأدبنا وفكرنا وماضينا وتاريخنا وأصلنا... كل شيء استصغروه حتى أخذنا نحن نستهزىء أنفسنا. أما هم فأعزوا انفسهم، ورفعوها حتى صدقنا ان علينا الامتثال والطاعة كي نستطيع تقليد الافرنج في الازياء والكلام والمناسبات...انه لأمر عجيب أن يفخر الانسان بسخافته وفقدان شعوره...".(23)

"الوعي النفسي" هو الذي يمكن ان يضع حداً لذلك "التحقير" أمام الغرب. "الوعي النفسي" بالنسبة الى شريعتي هو "ان اعرف أولا" الى أي عرق أو أصل أنتمي، وبأي أمة ارتبط. والى اي تاريخ واي حضارة واي ادب انتمي...هذه عودة الى "الوعي النفسي". وهي شرط تكوين "الوعي السياسي" أي شعور الفرد بمصير مجتمعه التاريخي والاجتماعي...وعلاقته هو بهذا المجتمع وبأبناء أمته وشعبه وشعوره بالمسؤولية تجاه هذا الشعب    (24)

هذا هو شريعتي وكأنه يتحدث اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين عن قدرة الغرب على تحقير المسلمين وبقية العالم. وعن قبول المثقفين "تحقير" أنفسهم وتقليد الغرب والتفاخر بنسيان لغتهم الأصلية.

لم يقبل شريعتي مكانة "الفيلسوف" الذي ينأى بنفسه عن "صغائر الامور" ، أي مشاكل المجتمع وقضاياه وآماله وطموحاته. اراد شريعتي أن يدمج بين رؤيته الفلسفية لأصالة الانسان (التفويض الالهي) وبين وعي الانسان في التغيير الاجتماعي. لم ير شريعتي الفرد كيانا مستقلاً غارقاً في نداءات الرغبة والغريزة بل مفوضاً من القدرة الالهية لتحقيق العزّة لنفسه ولمجتمعه.

هكذا ربط شريعتي بين تحقيق هذه العزّة وبين الاستقلال والأصالة. أما شرط ذلك كله، فليس الابتعاد والعزلة (عزلة المثقف والفيلسوف) بل "الوعي " اولا واخيرا. الوعي الذي يحق البناهة ويمنع تقليد الغرب وتحقير الذات..."

ومن دون هذا "الوعي" الذي سيحقق التغيير الفردي والاجتماعي لا قيمة للفرد نفسه، ولا لكل ما يقوم به...حتى لو كان فيلسوفا".

1.       كرين برينتون. تشكيل العقل الحديث. ترجمة شوقي جلال. سلسلة عالم المعرفة عدد 82, 1984، ص 164...174 .

2.       المرجع نفسه.

3.       جاك شورون، الموت في الفكر الغربي. ترجمة كامل يوسف حسين. سلسلة عالم المعرفة عدد 76.

4.       علي شريعتي. الانسان والتاريخ، دار الأمير بيروت 2006 ص 19.

5.       شريعتي ، الانسان والتاريخ ، مرجع سابق، ص 28.

6.       المرجع نفسه ص 29 – 30 -31.

7.       المرجع نفسه ص 65 – 69.

8.       شريعتي . الاسلام ومدارس الغرب .دار الامير بيروت 2008 ص 114.

9.       شريعتي. الاسلام ومدارس الغرب. مرجع سابق ص 147 – 148

10.   المرجع نفسه ص 137

11.   شريعتي. مسؤولية المثقف، دار الأمير بيروت 2007 ص 129

12.   شريعتي، مسؤولية المثقف. مرجع سابق ص 129.

13.   شريعتي، مسؤولية المثقف، مرجع سابق ص 130

14.   شريعتي، النباهة والاستحمار، دار الأمير بيروت الطبعة الثانية 2007 ص 13

15.   المرجع نفسه ص 25.

16.   شريعتي، مسؤولية المثقف، مرجع سابق، ص 135.

17.   المرجع نفسه ص 136

18.   المرجع نفسه ص 138.

19.   المرجع نفسه ص 126- 127 .

20.   شريعتي ، النباهة والاستحمار. دار الأمير، بيروت، الطبعة الثانية 2007، ص 47.

21.   المرجع نفسه ص 54-55

22.   المرجع نفسه ص 86

23.   المرجع نفسه ص 87

24.   المرجع نفسه ص 90 .


No comments:

Post a Comment