Thursday, November 1, 2007

الشباب العربي بين هجرتين

تثير قضية الشباب اهتماماً مشوباً بالقلق في معظم بلدان العالم، نظراً للدور المتزايد لهذه المرحلة في التغيير السياسي والاجتماعي؛ وفي التأثير على مستقبل أي أمة في مشروعاتها وخططها للتنمية من جهة،أو لحماية نفسها من الاخطار أو التهديدات المختلفة.التي قد تواجهها. ولذا يعتبر الشباب من مصادر القوة الاستراتيجية في أي مجتمع، يحرص على تعزيزها، وعلى عدم التفريط بها أو خسارتها... وقد انصرفت الكثير من المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات إلى الاهتمام بهذه القضية على المستويات النّظرية والعملية ومن جوانبها النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية... لكن التفاوت في هذا الاهتمام، يعود إلى ما يريده أو ما يتوقعه كل مجتمع من الشباب. ففي حين تشكو أوروبا على سبيل المثال تراجع أعداد هؤلاء الذين سيجعلونها "قارة عجوز" في العقود القليلة المقبلة. تبحث دول أخرى عن الحلول الاقتصادية والتنموية والسياسية لمعالجة ارتفاع نسبة الشباب التي تجاوزت أكثر من نصف عدد السكان كما هي الحال في كثير من البلدان العربية والإسلامية وفي أفريقيا...

ولا شك أن "الثورة التكنولوجية" التي يشهدها عالم اليوم جعلت قضاياه ومشاكله أكثر ترابطاً، وتأثيراً متبادلاً من أي حقبة أخرى في التاريخ. حتى ان تطلعات الشباب في كثير من بلدان العالم تأثرت بشكل أو بآخر بأنماط حياة الشباب في الغرب، بعد ان تعرفوا عليها عبر وسائل الاتصال. ومشكلة تراجع أعداد الشباب في أوروبا، ترغم الحكومات هناك على حلها عبر إبقاء أبواب الهجرة مفتوحة (رغم تشدد الإجراءات المتعلقة بها) للشباب القادمين من المغرب العربي وأفريقيا للعمل تارة كتقنيين أو كعمال في المهن الدنيا التي يأنف الأوروبيون من العمل فيها... ولعل هذا "الترابط" بين مشكلة الفائض هنا، والنقص هناك، يفسر السياسات الأوروبية "المتناقضة" التي تريد منع الهجرة العشوائية حتى لا ينفذ منها "الإرهابيون والمتطرفون" والسماح في الوقت نفسه بهجرة منتقاة أمنياً واجتماعياً... ولذا كانت الهجرة "على سبيل المثال وبمستوياتها كافة، أحد أهم بنود الشراكة الأوروبية – المتوسطية التي وقعت في برشلونة عام 1995.  ولعل نسبة الشباب المرتفعة في تركيا هي أيضاً أحد أسباب التردد (وربما الرفض) بالإضافة إلى السبب الرئيسي الديني – الثقافي، في ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لأن عشرات الملايين من الشباب التركي سيصبحون فجأة في قلب القارة الأوروبية... يبحثون عن العمل وعن السكن... ما قد يهدد مستقبلاً هوية أوروبا..
في مقابل ذلك يعود القلق المعاكس من ارتفاع عدد الشباب في البلدان العربية والإسلامية. الذي يبلغ نحو ثلثي سكانها، إلى العجز عن توفير فرص العمل لهؤلاء، ما يهدد بتحويلهم إلى مصدر لعدم الاستقرار والخوف المتبادل...لذا تصمت الكثير من الدول عن هجرة شبابها ...
وقد فشلت معظم حكومات هذه البلدان منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي إلى اليوم في تحقيق التنمية المنشودة، المستقلة والمتوازنة، وفي تقديم نموذج لتداول السلطة وللحريات او للديمقراطية، أو  حتى لمواجهة التحديات الخارجية او لبناء الاقتصاد القوي... ما جعل العلاقة بين هذه الحكومات المتعاقبة وبين أجيال الشباب علاقة أزمة وعدم ثقة، تنفجر بين حين وآخر تارة في مواجهات سياسية، أو لأسباب اقتصادية – اجتماعية، او بسبب تقاعص هذه الحكومات وتبعيتها للخارج أو عجزها عن دفع الاحتلال او غير ذلك... وتشير أرقام اليونيسف إلى أن نحو 50% من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم تحت سن 24 سنة. ما يعني أن 160 مليون منهم (من أصل 300 مليون) سوف يحتاجون إلى العمل في السنوات العشرة القادمة (2010) والتي لم يتبق منها سوى سنتين تقريباً.1 كما يشير تقرير آخر إلى أن الشباب ما بين 15-24 سنة في المنطقة العربية يقعون تحت ضغط الإحباط والتوقعات التي تحدثها بشكل جزئي مؤثرات الإعلام والتكنولوجيا والديناميكيات التحولية في البنى الأسرية، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والأزمات المستمرة التي يعيشها معظم بلدان المنطقة...2 ولا يفوت التقرير نفسه الإشارة إلى تأثير العولمة على الشباب الذين نشأوا على مفردات جديدة تختلف عن تلك التي تعرفت عليها الأجيال السابقة – ما يزيد من صعوبة التواصل بين الجيلين – ولا الإشارة إلى "الأفق المسدود بسبب الأزمة الاقتصادية وأزمة الهوية (القضية الفلسطينية واحتلال العراق وتداعيات الحرب على لبنان...).3
وإذا كانت هذه الأزمات التي أشار إليها التقرير، يعيشها الشباب في مجتمعاتنا العربية، دفعت ببعضهم إلى اليأس أو الإحباط، والرغبة في الهجرة وترك البلاد، فإنها دفعت بالبعض الآخر إلى محاولة تغيير الواقع باليد، وليس فقط بأضعف الإيمان (القلب) أو بالكلمة.كما فعل  أولئك الذين التحقوا بما عرف بظاهرة التطرف والعنف التي شهدتها البلدان العربية والإسلامية منذ مطلع الثمانينيات إلى اليوم, وهؤلاء ذهبوا تارة بدافع من عقيدتهم الدينية إلى قتال "الاحتلال الكافر" في افغانستان ، وطوراً إلى مواجهة "الأنظمة الكافرة" التي "لا تحكم بما أنزل الله". ولعل أي مراجعة لأدبيات المنظمات الإسلامية التي شغلت الناس، وبرامج الفضائيات، وأقلقت الحكومات، مثل "تنظيم الجهاد"، و "القاعدة"، و "فتح الإسلام"، وسواها... تكشف لنا هذا البعد "التكفيري" للإحتلال، وللحكومات.. ومشروعية الجهاد ضدهما معاً... لبناء "إمارة إسلامية نقية"... وما يثير انتباه الباحثين، وليس فقط الأجهزة الأمنية، أو العسكرية، إن ظاهرة التكفير، التي باتت تعرف "بالسلفية – الجهادية"، لم تجذب إليها، الفقراء واليائسين من الشباب فقط. (وفقاً للفرضية التي تربط الإرهاب والتطرف بالفقر والحرمان). بل جذبت أيضاً من ينتمي من الشباب إلى الطبقات الوسطى، وحتى إلى الطبقات الميسورة خاصة في بعض بلدان الخليج مثل المملكة السعودية وغيرها... ولعل أسامة بن لادن، وحتى أيمن الظواهري نموذجان بارزان لهذا الالتحاق "بالتطرف" نظرياً وعملياً، من مواقع اجتماعية ارستقراطية عند الأول، ومتوسطة عند الثاني...
لقد اعتقد بعض الباحثين المهتمين يشؤون الحركات الإسلامية وشجونها أن الاتجاه العنفي في هذه الحركات قد حقق قفزة كبيرة في مرحلة الثمانينيات، لكنه عاد إلى التراجع، وخبا تألقه في عقد التسعينيات. فـ Gilles Kippel على سبيل كتب عن هبوط أو انحطاط عصر "الإسلامويين"، بعد أن استعرض صعودهم في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان والمملكة السعودية ومصر والجزائر والسودان وصولا" إلى "أرض الإسلام" في أوروبا...
لقد انتهى Kippel إلى هذا الاستنتاج قبل "غزوة نيويورك" عام 2001 التي أعادت تسليط الضوء وتركيز الاهتمام العالمي على "الإسلاميين الجهاديين" وجعلت من بن لادن عدو الولايات المتحدة رقم واحد، وموضع تقدير وإعجاب الشباب المسلم في أنحاء العالم كافة، بعد أن تبنى هذه "الغزوة" وبات طريد "العدالة الأميركية" في جبال أفغانستان ووديانها... ما يعني أن الإسلاموية "Islamisme" لم تخبو، بل عادت إلى التألق، وهي أكثر دراية بتقنيات الإعلام الحديثة (مواقع الأنترنت)، تستخدمها وتنشر من خلالها مواقف أمرائها وبياناتهم، وصور من تختطفهم، وحتى "الرؤوس التي تجزها"... إدراكاً منها للتأثير النفسي لهذه الصور على "الأعداء" فتدب الرعب في قلوبهم، وتشفي في الوقت نفسه "صدور المؤمنين" ...
ويثير هذا الاستخدام(والانخراط) في أحد أهم تجليات العولمة في عصرنا الحاضر (تقنيات الاتصال الحديثة) اسئلة مهمة حول التأثيرات المفترضة العولمة على الشباب في البلدان العربية والإسلامية. وهي تأثيرات متناقضة ويمكن أن تفسر السلوك المتعارض بين أبناء الجيل الواحد من الشباب العربي، وليس بين جيلين شاب ومسن.
فأحد تأثيرات هذه العولمة أنها أتاحت التواصل اليسير وحتى غير المكلف مع كل ما يجري في العالم، (عبر الأنترنت) والتعرف إلى أنماط ثقافية جديدة غيرت في بعض مفاهيم الشباب حول التقاليد وسلطة الأهل والعلاقات بين الجنسين والرغبة في الهجرة إلى "مكان افضل". لكن هذه الوسائل أتاحت في الوقت نفسه التعرف الى المشاكل التي يعيشها الشباب امثالهم في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. وأن يشاهدوا بأم أعينهم المآسي الإجتماعية والظلم وعمليات القتل التي يتعرض لها الفلسطينيون، والعراقيون واللبنانيون... ما أثار النقمة والغضب في نفوس هؤلاء الشباب، ليس فقط على من يتسبب بهذا القتل وتلك المآسي (الولايات المتحدة وإسرائيل...) بل وعلى الحكومات التي لا تفعل شيئاً لمنع ذلك...1 وساعدت وسائل الاتصال الحديثة الجيل الشاب على تجاوز القيود المعرفية والإعلامية التي تفرضها عليه معظم الحكومات التي يعيش في ظلها. وبات يشعر بأنه يمتلك قوة المعرفة التي تحولت لدى قسم من هؤلاء الشباب إلى "معرفة القوة" بعد أن ارتبطت معرفتهم بالبعد الديني – الأيديولوجي الثابت الذي لا يتبدل... والتي أفضت إلى الالتحاق بنموذج تطبيقي عملي يجسد تلك القوة وتلك المعرفة الدينية المرجعية على أرض الواقع تارة من خلال "تنظيم القاعدة" أو من خلال "أخواتها" في لبنان وفلسطين والعراق والمملكة السعودية واليمن وسوريا وسواها... (فتح الإسلام، وجند الشام، وعصبة الأنصار، وسيوف الحق...)
"المهاجرون الى الآخرة"
ثمة عوامل عدة داخلية وخارجية تضافرت، وساهمت في تسويغ لجوء الشباب إلى العنف تارة وإلى النقمة على مجتمعاتهم أو حكومتهم وطلب الهجرة تارة أخرى.
ففي مطلع الثمانينيات وبعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان تنادت معاً، الحكومات العربية، والولايات المتحدة الأميركية، ومعظم الحركات الإسلامية للذود عن "أرض الإسلام" التي احتلها "الكفار الشيوعيون". وحظي هذا النداء بالدعم والتأييد المالي والإعلامي والسياسي. وقدّم للمتطوعين الشباب الذين جاؤوا من بلدان إسلامية وعربية مختلفة السلاح والعتاد والتدريب. ورفع الإعلام الرسمي العربي، وحتى الإعلام الأجنبي من شأنهم، ومن شأن "الشهادة في سبيل الله". وسمّاهم  من دون تردد "المجاهدين" تأكيداً لتلك المكانة الرفيعة، واعترافاً بنبل مهمَّتهم السامية. لكن تحرير أفغانستان أعقبه تبرؤ من هؤلاء "المجاهدين". فلم يرغب أحد من الحكومات في عودتهم إلى بلدانهم. وأسقطت تلك المكانة والهالة التي نُسبت إليهم. وتحوَّل العائدون من أفغانستان إلى مطاردين في أصقاع الأرض. ونشا ما عُرف بظاهرة "الأفغان العرب". وتحول هؤلاء الذين تأثروا بالاتجاه المصري بين المجاهدين في أفغانستان".2 إلى قتال الحكومات التي انقلبت عليهم بعدما "اكتشفوا" أنها حكومات كافرة وخاضعة للإحتلال الأميركي". وفي هذه الفترة وُلد تنظيم القاعدة الذي جعل هدفه "محاربة اليهود والكفار والصليبيين". بعدما كان هدف "الحركة الجهادية الإسلامية طوال الثمانينيات، تحرير أفغانستان فقط.
في بداية التسعينات حظي تنظيم "القاعدة" باهتمام إعلامي وسياسي وأمني عندما تحوّل، انسجاماً مع استراتيجيته، إلى ضرب أهداف أميركية في بلدان عربية وأفريقية، وإلى تهديد الاستقرار في بعض البلدان العربية من خلال عمليات ضد مراكز حكومية أمنية أو ضد مؤسسات أجنبية. كما حصل في المملكة السعودية على سبيل المثال . لكن ذروة الصعود الذي حققه تنظيم القاعدة، وكذلك شهرة زعيمه أسامة بن لادن، كانتا بعد عملية الحادي عشر من (سبتمبر) 2001 أو "غزوه نيويورك" التي نسبت إلى ذلك التنظيم، وأدت إلى تضامن عالمي مع الولايات المتحدة بعدما اتخذتها ذريعة لشن حرب مفتوحة على الإرهاب لم تتوقف لغاية اليوم.
لكن ما فعله "تنظيم القاعدة" كان له تداعيات أخرى، هي الوجه الآخر للحرب الأميركية المفتوحة على الإرهاب. فقد لقيت "الطعنة" التي اهتزت لها الدولة العظمى في قلب أمنها واستقرارها... تعاطف وتأييد الكثيرين (في البلدان العربية والإسلامية)، الذين اعتبروا ما حصل، بغض النظر عن نتائجه الللاحقة مثابة انتقام، تستحقه هذه الدولة، التي تقف إلى جانب إسرائيل وتفرض هيمنتها على شعوب العالم وعلى ثرواتهم... وقد جذب هذا "العمل البطولي" المتقن الذي أفلت من كل الإجراءات الأمنية والاستخبارية الأميركية، الشباب في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي. "وأطلق مئات الأزواج اسم أسامة على مواليدهم الذكور. وبين ليلة وضحاها خرجت من المصانع قمصان وملصقات تحمل صورته كأنه صلاح الدين هذه الأيام... يجرد سيفه على أعدائه من الكافرين من أجل: طرد الجيوش الأجنبية التي تحتل أرض المسلمين، والدفاع عن الفقراء الأطهار بوجه الأغنياء وفسادهم، وقلب ذوي السلطان والمستكبرين رأساً على عقب، وإلهام الشباب وحثهم على إنكار الذات تمثلاً به.1
شكل الرد الأميركي انتقاماً لما حصل بعد الحادي عشر من (سبتمبر) 2001 (الحرب على الإرهاب، آلاف القتلى في أفغانستان، تصريح الرئيس بوش بأن الحرب التي يخوضها هي "حرب صليبية"...) قوة جذب دفعت المسلمين الشباب بالمئات لدعم قضية أسامة في أفغانستان، كما كانت جرأته في مواجهة الصعاب أشبه باللاقط المغناطيسي لهؤلاء."2
          ساهم في تبرير غضب الشباب المسلم، الذي ينظر أصلاً بعين الريبة إلى الولايات المتحدة، وإلى "الغرب الكافر"، الدعوات الأميركية التي جعلت من الإسلام عدواً جديداً (التهديد الأخضر) بعد أفول التهديد الشيوعي (الأحمر) إثر تفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات. وستغذي الدراسات التي روجت لـ ""صدام الحضارات" وحتميته، وللتهديد الإسلامي القادم... أطروحة "القاعدة" التي ستصبح أكثر جاذبية للشباب، وهي تتحدث عن الغرب كـ "دار حرب" ينبغي أن يتعرض لهجوم مماثل كالذي يقوم به ضد بلاد المسلمين...وستستند بيانات القاعدة التي سيتلوها بن لادن او أيمن الظواهري إلى ما تفعله الولايات المتحدة خاصة والدول الغربية عامة من احتلال ونهب للثروات... وسيكون ما يجري في العراق، بعد احتلاله- دليلاً قوياً- بالنسبة إلى القاعدة على صحة ما ذهبت إليه. وهي التي ستجعل من العراق مركزاً لجذب آلاف المتطوعين الشباب للجهاد ضد الاحتلال وأعوانه...
          اما ما تعرضت له الحركات الإسلامية وحركات الإسلام السياسي من تضييق واعتقالات بعد زج قادتها وكثير من أفرادها في السجون ومنعها من المشاركة في النشاط السياسي العلني، حتى بعد تراجع بعضها عن العنف (كما حصل مع الجماعة الإسلامية في مصر...)، فقد أدخل اليأس إلى نفوس كثير من الشباب المنتمين إلى هذه الحركات أو المؤيدين لها والمتعاطفين معها، من إمكان التغيير سلماً... والاستنتاج بأن العنف وحده، والقضاء على رأس السلطة، هو السبيل الأفضل للوصول إلى المبتغى. أي "التغيير من القمة" بدل العمل الإسلامي التقليدي الذي ينتهج "التغيير من القاعدة" عبر الدعوة والتربية والتعليم...
          ستساهم مجموع العوامل التي سبق وأشرنا إليها مع التفاوت في حجم تأثيرها بين بلد وآخر، في نشوء ظاهرة "الإسلام – الجهادي" أو "السلفية – الجهادية" التي سيتلحق بها أو ينجذب إليها، عبر تنظيم القاعدة، و"أخواتها" قسم من الشباب في البلدان العربية؛ لاعتقادهم بأن هذا السبيل هو الأقصر سواء لتغيير الحكومات" التي لا تحكم بما أنزل الله"، او لإ نزال "القصاص" بالغرب "الكافر"، الذي يجثم على أراضي المسلمين... وإذا كان التحاق الشباب بهذه الظاهرة، ومبايعة أمرائها هو نوع من هجرة لمجتمعاتهم أو انتقاماً منها، او بدائل لقيادات يبحثون عنها، او لنمط آخر من العيش يريدون الانتقال إليه (الشهادة) لتغيير النمط الفاسد الذي يعرفونه. فإن هذا الواقع الذي طغى عليه العنف، أصبح هاجس المؤسسات السياسية والأمنية والإعلامية والبحثية في العالم العربي، فحجب الوجه الآخر لظاهرة الشباب؛ أي هجرتهم المتزايدة إلى خارج بلدانهم، والتي تعود في كثير من أسبابها إلى تلك التي دفعت بأقرانهم إلى العنف والتطرف، أي الاعتراض على ما يحصل في بلدانهم، والرغبة في تغيير الواقع الذي لا يختلف الكثيرون، ولا التقارير المحلية ولا الدولية على وصفه بالسيء على المستويات التنموية والسياسية والاقتصادية وسواها...
          ولعل أهم القواسم المشتركة لظاهرة الشباب التي تجمع اليوم بين العنف وبين الهجرة أن العنف أيضاً لم يعد محلياً. بل بات عنفاً مهاجراً تتنقل الدعوة إليه عبر الفضاء (الأنترنت)، وينتقل من يريد ممارسته إلى حيث ينبغي "الدفاع عن المسلمين" في العراق أو أفغانستان أو لبنان، وصولاً إلى بلدان أوروبا والولايات المتحدة... وتجمع المهاجرين أيضاً سمة المعرفة العلمية التي يحتاجها التواصل عبر الانترنت واستخدام التكنولوجيا (وقيادة الطائرات)، ويحتاجها أولئك المغادرون إلى أوروبا بحثاً عن عمل لم يعثروا عليه في بلدانهم...
          فمن هم هؤلاء المهاجرون الشباب الذين قرروا مغادرة مسقط رأسهم ودفء عائلاتهم إلى أصقاع باردة لا يعملون كيف سيُستقبلون فيها ولا متى يعودون منها، ولا المشاكل الجديدة التي سيكون عليهم مواجهتها...
"المهاجرون إلى الدنيا":
          على الرغم من صعوبات تقدير حجم الهجرة والتعرف على خصائصها بسبب ندرة البيانات حولها، فإن الظاهرة تثير القلق على مستويات عدة:
أولاً: في البلدان التي يهاجر منها هؤلاء الشباب. فقد باتت هجرتهم، خاصة أولئك المتعلمين منهم، مثابة نزيف لأدمغة هذه البلدان. ومع تزايد فرص جذب "العمالة الماهرة" من العالم النامي إلى الغرب المتقدم ارتفعت أعداد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين  من 175 مليوناً إل نحو 190 مليوناً في العقد الأخير. ويقدر أن ما يزيد على 80% من هؤلاء المهاجرين هم من بلدان نامية نحو أوروبا وأميركا وكندا.2
          ومن المعلوم أن دول الاتحاد الأوروبي تشكو نقصاً استراتيجياً في أعداد الشباب، وبالتالي نقصاً في من سيقوم بكثير من المهن التي تحتاج إليها على جميع المستويات. و"قدرت الدوائر المتخصصة في الأمم المتحدة احتياجات الاتحاد الأوروبي من العمالة الوافدة بما يحدث توازن سكاني بين قوة العمل والسكان المعالين من المسنين بحوالي 7 و 14 مليون مهاجر من خارج الاتحاد سنوياً. كما قدرت المفوضية الأوروبية حاجة الاتحاد من الكفاءات المتخصصة فقط في مجالات التكنولوجيا الحديثة للمعلومات والاتصال بحوالي 1.7 مليون سنوياً"3
          وأوضح تقرير اقتصادي في سنغافورا أن نسبة 50 إلى 90% من الشباب في الدول النامية يرغبون في الهجرة المؤقتة إلى الدول النامية بحثاً عن فرص العمل. وإن ثلث تدفقات المهاجرين من البلدان النامية (بحسب التقرير الدولي) تتراوح أعمارهم بين 12 و 24 عاماً. وبما أن عدد الشباب في العالم وفقاً للتقرير نفسه ممن هم دون 24 عاماً يصل إلى 1.5 مليار شاب منهم 1.3 مليار في البلدان النامية. وهو أكبر عدد يشهده التاريخ، ما ينذر بطفرة في

أعداد الشباب".1 ويبلغ العدد الإجمالي للمهاجرين العرب ما بين 15 إلى 20 مليوناً وهو يتفاوت بين بلد وآخر.2 علماً بأن الشباب العربي يشكل أكثر من 40% من سكان الوطن العربي البالغ نحو300 مليوناً. وأن 53% من طالبي العمل هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 25 سنة.3 لأن معدلات البطالة كما هو معلوم هي معدلات مرتفعة في "دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". ما يعني أن الشباب الذي يبحث عن عمل يصعب العثور عليه في بلده، سوف يجد في الهجرة إلى الخارج، فرصة أمل يبحث عنها. ولن يتردد في التوجه نحوها؛ في حين أن هذه الهجرة التي ستتنامى لتبلغ نحو عشرين مليوناً ستشكل خسارة حقيقية لبلدانها. ويمكن النظر إلى هذه "الخسارة" من خلال زوايا عدة:
- أنها ساهمت في "إنقاذ" الحكومات التي عجزت عن توفير فرص العمل، فتخلصت من خلال باب الهجرة المفتوح، من الاحتقان والغضب الذي قد يتوجه ضدها خاصة من الشباب في الأوساط الجامعية أو الشعبية حيث التطلع إلى المستقبل والبحث عن المهنة. ولذا تغاضت هذه الحكومات عن الرغبة المتزايدة بالهجرة. وهي لا تفعل الشيء الكثير للحد منها. إلا إذا فرضت الشراكة مع الأوروبيين على سبيل المثال وضع القيود على المهاجرين (على غرار الشراكة الأوروبية- المتوسطية) خشية الارهاب والعمالة غير الشرعية واختيار العمالة الماهرة...
- أنها دقت ناقوس الخطر في الدول العربية من هذا النزيف المتواصل للشباب عامة وللمتعلمين منهم خاصة. لأن هذه الدول بأمس الحاجة، في تحدياتها الاجتماعية والتنموية والسياسية والثقافية إلى هؤلاء المتعلمين. وأن هجرة من هذا النوع تساهم بشكل أو بآخر في إطالة أمد التخلف وفي تأخير القدرة على النهوض ومواكبة العصر (1600 باحث مغربي في المركز الوطني للبحوث الفرنسية CNRS).
- أنها لعبت دوراً إيجابياً في دعم أسر المهاجرين مادياً ورفع مستواهم الاجتماعي وحتى التعليمي... وحتى "في الحد من الفقر أيضاً".4
- أتاحت الهجرة فرصاً جديدة للشباب للتعلم، وللعمل وللتعرف على مجتمعات جديدة وثقافات متنوعة. لكنها في الوقت نفسه جعلت منهم ضحية العنصرية وسياسات التمييز والتهميش (مشكلة الضواحي الباريسية 2005) وصعوبة الاندماج (قضية الحجاب في فرنسا) ومواجهة تغير منظومة القيم الاجتماعية والثقافية،...
- تحولت أوساط كثير من المهاجرين إلى واحة خصبة لأفكار القاعدة ضد الغرب "عدو المسلمين" وضد الحكومات الإسلامية" التي لا تحكم بما أنزل الله". والتحق بعض شباب المهاجرين بالتنظيم نفسه. وقاموا بتفجيرات في أكثر من عاصمة أوروبية. وانتقل آخرون إلى العراق... وهكذا سيتقاطع هذا التحول نحو العنف الذي بدأ منذ عقدين في أوساط المهاجرين مع ازدياد حدة الدعوات العنصرية في بلدان  الاستقبال (أوروبا خصوصاً). ومع سياسات التشدد الأمني والتضييق السياسي والاجتماعي على المهاجرين...1  بحيث باتت صورة المهاجرين مرادفة للتطرف الإرهاب.
          لا شك بوجود تفاوت في أعداد الشباب المهاجرين بين بلد عربي وآخر. وكذلك في أولوية الأسباب التي دفعتهم إلى مغادرة أهلهم وأوطانهم وفي الطموحات التي يتطلعون إليها في هذا العالم الذي تلتبس فيه، بسبب الثورة التكنولوجية، (والعولمة) صورة الحياة الافتراضية  مع صعوبات العيش الحقيقية...
          ففى التقرير الذي أصدره برنامج التنمية في الأمم المتحدة UNDP في 2006 عن "الشباب العربي يخططون للأهداف الإنمائية للألفية" وهو نتيجة ثلاث ورش عمل عقدت في كل من مملكتي البحرين والمغرب وجمهورية اليمن، اعتبر المشاركون الشباب "بعد فترة من الأبحاث في عالم الاتصالات أنهم عالقون بين عالمين أحدهما واقعي والآخر افتراضي... وأن البطالة تحاصر الشباب في مرحلة يتطلعون فيها إلى الاستقلال النسبي والزواج... وإن أسواق العمل تقليدية وغير قادرة على أداء وظائفها وأقر المشاركون بأن الواقع العربي الحالي يعاني من أزمة في التمكين السياسي للشباب. وأن تعليم الشباب وتوظيفه بالإضافة إلى الديمقراطية يعد من مداخل تمكين الشباب، ويتيح لهم المشاركة في إدارة شؤون المجتمع والدولة..."2
          وهذا يعني أن ما تتطلع إليه هذه العينة من الشباب العربي مفقود في بلدانها، حيث تنتشر البطالة وتغيب الديمقراطية ويحل الفساد. وهو ما نشرته عشرات التقارير والدراسات المحلية والإقليمية والدولية في العقد الأخير عن البلدان العربية. ولذا تصبح الهجرة بالنسبة الى معظم الشباب العربي هي البديل عن الواقع الذي  لا يرضيهم ولا يجدون فيه ما يطمحون إليه.3 وهي هجرة نحو العنف أو نحو بلاد أخرى، وفي الحالتين يعتقد المهاجرون الشباب أنهم ذاهبون نحو الأفضل...
حلول ودعوات:
          ثمة من يحاول في ظل هذا الواقع الصعب لجيل تمزقه "هجرتان" أن يحد من التداعيات السلبية الراهنة والمستقبلية لهذا النزيف المتواصل. فعلى المستوى الرسمي على سبيل المثال تريد جامعة الدول العربية في تقريرها (الذي أشرنا إليه) حول "هجرة "العمالة العربية" إنشاء وزارات متخصصة بقضية الهجرة، وتعاوناً بين الأطراف الحكومية والأهلية ومنظمات المجتمع المدني السياسية والعلمية والمالية... وتفعيل التواصل بين الشباب في بلد الاستقبال وبلد الإرسال. وتحويل المهاجرين إلى جسر تواصل لتدعيم الشراكة الحقيقية مع أوروبا...الى التنويه بدور الكفاءات المهاجرة في نقل المعرفة والتكنولوجيا إلى بلدانها الأصلية ولا ينسى تقرير الجامعة العربية الدعوة إلى الاعتراف بجمعيات وشبكات الكفاءات المهاجرة وإشراكها في مختلف أبعاد السياسات التنموية الوطنية... (ص 100-101).
          لكن ما تجدر ملاحظته أن "نوايا التقرير الحسنة" تجاه المهاجرين اقتصرت على تفعيل دورهم حيث هم. وعلى الاستفادة منهم في نقل المعرفة والتكنولوجيا، والحوار مع أوروبا... من دون أن يقول لنا التقرير أن واجب الحكومات هو أصلاً الحد من هجرة الشباب من خلال معالجة الأسباب السياسية والاجتماعية والتنموية والاقتصادية (البطالة والمشاركة والحريات...) والحد من التدخل الخارجي في بلدانهم...
          وثمة من يبحث على مستوى الهجرة الأخرى (نحو العنف والتطرف) عن "الخطاب الديني المستنير" وعن الاعتدال، "لتغيير رؤية شبابنا للواقع وللمستقبل" ،بعد الاعتراف "بخطورة الزج بشبابنا وقوداً في صراعات السياسة وأدوات رخيصة في معارك خاسرة.. ليس لها علاقة بقضايا الأمة الحقيقية، ثم إلى الموت العبثي باسم الجهاد..."1 لكن البعض يعتقد وهو محق في ذلك        إن "مشكلة الإرهاب ليست مشكلة فئة من الشباب بل مشكلة مجتمع بأكمله أحيط بسياج من العزلة عن مواكبة الفكر الآخر والتحاور معه..."2 وأن الاعتدال البديل "لتغيير رؤية شبابنا للواقع وللمستقبل" لا تزال حقيقتة "ضئيلة خافتة... لا خطة عملية قابلة للتنفيذ، مقارنة مع خطط الإفراط والتشدد التي رسمت منذ سنوات... ولا مثل ما خطط وينفذ حالياً – التفريط – في القيم والأخلاق."... وحده الاعتدال لا تخطيط له... ولا برامج سوى أحاديث المجالس وخطب المنابر.3      
          ربما تعكس الملاحظات السابقة واقع الشباب في كثير من البلدان العربية وواقع حكوماتهم المكبلة بسوء الإدارة وسوء التخطيط والفساد.... والعاجزة أمام التدخل الخارجي تارة وأمام الاحتلال تارة أخرى... ما يعني أن هجرة الشباب العربي ستتواصل في السنوات المقبلة إذا لم تتزايد مع تزايد الصراعات والحروب في بلدانهم.
 ولعل يأس الشباب من فرص التغيير وغياب القوى أو الأحزاب والشخصيات التي يمكن أن تنتزع هذا اليأس ببرامج وسياسات واقعية... يعني أن هجرة الشباب العربي "المزدوجة" ستتواصل في السنوات المقبلة.  لا بل ستزداد نسبتها ارتفاعاً في أوساط المتعلمين وغير المتعلمين، احتجاجاً على واقع فرض عليهم وبحثاً عن مستقبل يريدون أن يصنعوه بأيديهم.

No comments:

Post a Comment