Sunday, June 28, 2009

أزمة الانتخابات الايرانية؟

للمرة الثانية يفاجئ احمدي نجاد العالم بانتخابه في  12/6/2009رئيسا" للجمهورية في ايران. المرة الاولى كانت قبل اربع سنوات عندما فاز على الرئيس هاشمي رفسنجاني. كان نجاد وقتها شخصية مغمورة جاءت من صفوف الحرس الثوري الى ان اصبح رئيسا" لبلدية طهران. ولم يكن احد يتوقع له الفوز امام منافسه الرئيس السابق للجمهورية ورجل النظام القوي ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام.وقيل في ذلك الوقت ان بساطة نجاد ولغته القاسية تجاه الغرب ساهمت في جذب المؤيدين اليه وأبعدتهم عن رفسنجاني الذي قدم نفسه محاور الغرب القادر على القيام بهذه المهمة دون سواه.علما" بأن رفسنجاني لم يعد تلك الشخصية الشعبية في اوساط الايرانيين فقد فشل قبل ذلك في الانتخابات البرلمانية وكان في آخر قائمة الفائزين ما اضطره الى الاستقالة في ذلك الوقت.كان كل العالم يتوقع فوز الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني،فكانت المفاجأة في فوز احمدي نجاد ، ما دفع الكثيرين الى اعادة قراءة المشهد الايراني والى التفكير في ما ستؤول اليه السياسات الايرانية في عهد الرئيس الجديد.

اليوم ايضا" كانت معظم التوقعات والتحليلات وكثير من التمنيات الدولية ترغب في فوز رئيس الحكومة الاسبق مير حسين موسوي الذي تراه اصلاحيا"،وخسارة احمدي نجاد "المتشدد".فكانت المفاجأة اكبر من تلك التي حصلت في المنافسة مع رفسنجاني قبل اربع سنوات، بسبب كثافة التصويت (نحو 84 في المئة) والفارق الكبير في نسبة الاصوات (أكثر من عشرة ملايين صوت) حصل عليها احمدي نجاد مقارنة مع خصمه مير حسين موسوي.ما دعا المرشح الخاسر الى الاعتراض بعد الادعاء بتزوير حصل ومنعه من الفوز بعدما كانت كثافة التصويت الداخلية، وبيئة المشاركة الاعلامية الدولية ترجح فوز موسوي. فتحولت نتاائج الانتخابات الرئاسية ولأول مرة في تاريخ ايران الى أزمة جعلت ايران في عين العاصفة.
 كانت الانتخابات الايرانية محط اهتمام كبير في الاوساط الدولية الغربية ليس فقط لمعرفة الى أي مدى وصلت شعبية النظام التي تقاس غالبا" بمستوى  كثافة الاقتراع، او للتدقيق في  ما بقي من شعبية الرئيس احمدي نجاد بعد الانتقادات الكثيرة التي وجهت الى سياساته الاقتصادية والى مواقفه الخارجية ...بل لأن، الغربيين والاميركيين تحديدا" هم اكثر من يعرف ان الرئيس الايراني الحالي سينتخب في اطار معادلة اقليمية ودولية جديدة ،ولا بد من الاطمئنان الى شخصية الرئيس الجديد وكيف سيتعامل مع هذه المعادلة التي لا يمكن تجاهل ايران ودورها واستعدادها للمساهمة فيها.وبما ان واشنطن والعواصم الغربية الاخرى تعرف احمدي نجاد ومواقفه الثابته وتصريحاته "النارية"،فقد كانت تفضل فوز مير حسين موسوي "الاصلاحي" الذي من المفترض ان يكون اكثر ليونة وأكثر استعدادا" للحوار وللتعاون...ولذا لم تكن مفاجأة "الخارج" الغربي وصدمته اقل من مفاجأة الداخل الايراني وصدمة الاصلاحيين فيه من فوز احمدي نجاد الساحق الذي قضى على أي امكانية لاعادة تبلور مشروع اصلاحي جديد تحت عباءة  مير حسين موسوي ، كما فعل الاصلاحيون عندما التفوا حول الرئيس محمد خاتمي.
زاد من الاهتمام الدولي بالانتخابات الايرانية اعتراض المرشح مير حسين موسوي على نتائج الانتخابات وتأكيده أن تزويرا" حصل فيها ومنعه من الفوز او من البقاء امام منافسه لدورة ثانية على الاقل, ولم يقتصر الامر على مجرد التشكيك بنتائج  الانتخابات بل نزل انصار موسوي الى الشوارع في تظاهرات ضخمة ضمت عشرات الالاف لأيام متتالية وحصلت صدامات بينهم وبين قوى الامن سقط من جرائها  قتلى وجرحى في مواجهة هي الأسوأ والأقسى بين النظام وبين معارضيه.
سارعت الدول الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا والمانيا الى التنديد ب"قمع المتظاهرين" والى التساؤل عن صدقية النتائج داعية طهران الى تبيان حقيقة ما جرى.في حين وقف الرئيس السابق خاتمي ومن خلفه الرئيس رفسنجاني صامتا"(الذي اتهمه احمدي نجاد في احدى مناظراته التلفزيونية بالفساد) الى جانب موسوي الذي دعا مع المرشح الآخر الخاسر الشيخ مهدي كروبي الى  اجراء الانتخابات من جديد.
كان الرئيس احمدي نجاد طوال ولايته الاولى شخصية حادة ومباشرة. لم يتردد لا في داخل ايران ولا في المحافل الدولية من تأكيد مواقفه ضد اسرائيل واعتقاده بزوالها وتشكيكه بالمحرقة (الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود في اوروبا.وقد حرص على التمسك الصارم بمتابعة برنامج بلاده النووي. ولم يتراجع قيد انملة. ورفض ان يوقف التخصيب ولو ليوم واحد. واختلف مع اقرانه من المسؤولين ،مثل علي لاريجاني على ادراة عملية التفاوض  مع الغربيين حول هذا البرنامج . ومع كل عقوبات كانت تفرض على ايران كان الرئيس الايراني يرد بالاعلان عن استمرار التخصيب وزيادة اجهزة الطرد المركزي...وقد رأى كثيرون في داخل ايران وخارجها ان مرحلة نجاد تلاءمت مع مرحلة جورج بوش الذي كان بدوره يقود مرحلة هجومية على ايران وحروبا" استباقية ومحاولات لتغيير هياكل وبنى الشرق الاوسط والتي انتهت بفشل ذريع في العراق ولبنان وافغانستان...وبما ان هذه المرحلة قد طويت برحيل جورج بوش، فمن المنطقي ان تنتخب ايران شخصية أخرى غير احمدي نجاد لتكون أكثر انسجاما" مع دعوات الرئيس الاميركي باراك اوباما للحوار –غير المشروط ومد اليد والتفاهم والشراكة مع العالم الاسلامي التي دعا اليها من تركيا ومن جامعة القاهرة وحتى في خطاب القسم الذي اطلقه بعد انتخابه مباشر.لكن الانتخابات الرئاسية بدل ان تكون محطة لتوضيح سياسات ايران تجاه الدعوات الاميركية للحوار وتجاه المرحلة الاقليمية المقبلة تحولت الى أزمة كادت تهدد الاستقرار والنظام الاسلامي نفسه.
لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الايرانية  يلتقي المرشحون في مناظرات تلفزيونية مباشرة . ولم تخل تلك المناظرات من نقد قاس واتهامات بالفشل او بالفساد...ما اشاع في داخل ايران وخارجها انطباعا" ايجابيا" وتفاؤلا" بشفافية وديمقراطية رافقت الحملة الانتخابية لم تكن مألوفة طوال العقود الماضية. ومن المعلوم ان مثل هذه المناظرات هو تقليد غربي غير شائع في البلدان العربية والاسلامية التي لا يعرف معظمها اصلا" الانتخابات الرئاسية لأن الرئيس فيها يبقى في موقعه الى حين مغادرته هذه الدنيا.ولعل السبب يعود الى احمدي نجاد نفسه المتحمس دائما" والمتحفز لمواجهة خصومه. فقد سبق له ووجه تحديا" الى جورج بوش لمناظرته حول قضايا ايران والعالم –وقد رفض الأخير الرد بطبيعة الحال- . وهو الذي بادر الى تحدي المرشحين الآخرين الى المناظرة حول صحة الانتقادات التي وجهت اليه.وقد استجاب المرشحون الايرانيون باعتبار الامر فرصة دعائية غير مسبوقة أملا" في تحقيق ما يمكن ان يضعف احمدي نجاد امام الجمهور الواسع الذي اعجبته فكرة المناظرات بحيث كانت شوارع المدن الايرانية تخلو من المارة في اثناء بثها المباشر. ومن غير المؤكد اذا كانت هذه الظاهرة ستستمر في المستقبل ام لا.لكن وفي كل الاحوال انحصر المشهد الانتخابي بين اربعة مرشحين كما جرت العادة تقريبا" في كل انتخابات رئاسية .إذ يتدخل مجلس صيانة الدستور الذي يدرس طلبات مئات المرشحين،ليبقي منها على ثلاث او اربع شخصيات تمثل التيارات السياسية الرئيسة في البلاد.وخلافا" لما هو شائع عن الانقسام بين اصلاحيين ومحافظين فقد تنافس مرشحان اصلاحيان هما الشيخ مهدي كروبي رئيس مجلس الشورى الاسبق والسيد مير حسين موسوي رئيس الحكومة الاسبق في اثناء الحرب العراقية الايرانية والذي ابتعد عن أي منصب رسمي منذ ذلك الوقت الى حين ترشحه للرئاسه.في حين انقسم المحافظون بين احمدي نجاد ومحسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري.ولعل هذا التنافس يعكس مروحة التباينات الشخصية والسياسية في داخل كل اتجاه من الاتجاهات السياسية من اصلاحيين ومحافظين . ففي حين يعتبر نجاد من التيار الاصولي التقليدي او المحافظ يعتبر رضائي من المحافظين الاصلاحيين. في حين نرى العكس تماما" في الجبهة المقابلة إذ يعتبر كروبي من الاصلاحيين المعتدلين في حين يبدو مير حسين موسوي اقرب الى الاصلاحيين المحافظين ،علما" بأن الرئيس خاتمي اعلن سحب ترشيحه بعد التوافق مع موسوي  لتمثيل التيار الاصلاحي في المعركة الرئاسية. وقد كان الامر واضحا" في الصور والملصقات التي حملت صورة خاتمي وموسوي معا" في اثناء الحملة الانتخابية ليس فقط للتأكيد على انتماء موسوي الى التيار الاصلاحي وتأييد خاتمي له بل ولعل السبب الرئيس يعود ايضا"الى تعريف الجمهور الواسع بموسوي الذي كما اشرنا بقي غائبا" عن الساحة السياسية والاعلامية طوال أكثر من عقدين ولا يعرفه الجيل الشاب من الثورة الذي يلعب دور مهما" في أي انتخابات ايرانية .
.لكن ما حصل عليه "المرشح الخاسر" مير حسين موسوي من اصوات (نحو عشرة ملايين صوت) وردود الفعل العنيفة في الشارع وفي الخارج على هزيمته "غير المتوقعة" ستجعله الرمز المقبل للحركة الاصلاحية في ايران بما يتجاوز خاتمي نفسه او الرئيس رفسنجاني..
واجه احمدي نجاد انتقادات حادة لسياساته الاقتصادية التي زادت نسبة التضخم والبطالة وارتفاع الاسعار الجنوني.لكن المرشحين الآخرين لم يقدموا البدائل الواضحة أو المقنعة لسياسات اقتصادية مغايرة يمكن ان تحل الازمات الاقتصادية-الاجتماعية لمعظم الايرانيين.ويمكن ان نرسم خريطة مواقف المرشحين من القضية الاقتصادية-الاجتماعية على الشكل التالي:               
يرى مير حسين موسوي، المرشح الأبرز الذي يمثل الاصلاحيين، ان على الدولة التدخل بالاقتصاد ،وعدم ترك الامور للسوق الحرة تماما".وقد تبين توجه موسوي عندما قدم برنامجأ اقتصاديا" يركز على محاربة التضخم منتقدا" الرئيس احمدي نجاد ،لأنه ،أي موسوي، لا يرى ان يتم توزيع عائدات النفط، كما فعل احمدي نجاد،على شكل مبالغ نقدية على الناس،"بل يجب ان تستغل المساعدة من اجل خلق الوظائف والوحدات الصناعية التي تزيد الانتاج".لأن التصنيع بالنسبة اليه هو بوابة الدخول الى العالم المعاصر...لكن موسوي يريد في الوقت نفسه ،كما قال لمجلة شبيغل انترناشيونال" ضم القطاع الخاص للمساهمة في الاصلاح الاقتصادي للبلاد.كما اعلن عن تشجيع ايجاد قنوات فضائية خاصة في ايران...
في حين يعتبر أحمدي نجاد أكثر ميلا" الى الاقتصاد الحر.وقد خطت ايران في ولايته الاولى وبدعم مباشر من مرشد الثورة خطوات مهمة وعملية من اجل مشاركة القطاع الخاص في الدورة الاقتصادية للبلاد.لكن احمدي نجاد في الوقت نفسه لا يدعم الليبرالية الاقتصادية بشكل مطلق. وقد استمد شهرته من الشعارات التي رفعها لمحاربة المفسدين الذين جمعوا الثروات على حساب الشعب. كما قام عمليا" بتوزيع المال على الفقراء وبنى مساكن لنحو 200 الف عائلة في الارياف والقرى النائية والفقيرة وقدم لها المساعدات النقدية.ولذا يرى احمدي نجاد ضرورة وجود نوع من التكافل الاجتماعي الذي يتجلى في الجمعيات الخيرية وتوزيع الاموال الشرعية لمساعدة الفقراء والمعوزين للتخفيف من وطأة اقتصاد السوق.ويدعو نجاد الى طريق وسط بين الرأسمالية الغربية وسياسات التدخل الحكومي في الاقتصاد،مثل دعم المواد الغذائية والوقود (الذي تنفق ايران منه على مواطنيها نحو 30 في المئة من انتاجها النفطي يوميا").وقد ووجهت سياسة أحمدي نجاد الاقتصادية بمعارضة الكثير من الخبراء الذين رأوا في توزيع الاموال سببا" للغلاء والتضخم من دون أي مردود اقتصادي .كما رأى آخرون ان سياسات أحمدي نجاد الخارجية تسببت في الكثير من التوتر مما ضيع فرصا" استثمارية كبرى على البلاد.
ولا يبدو ان المرشحين الآخرين محسن رضائي ومهدي كروبي بعيدين عن محوري احمدي نجاد ومير حسين موسوي. أي ان الفروقات الحقيقية على مستوى الرؤيا الاقتصادية بين المرشحين ليست عميقة او جذرية. فالجميع يتحدث عن ادوار مشتركة للدولة وللقطاع الخاص مع فارق في حجم الدور الذي يريده كل طرف لهذا القطاع او ذاك.
تعرض نجاد ايضا" لانتقاد سياسته الخارجية "المتشددة"،التي  تسببت بحسب المرشحين الآخرين "بعزلة ايران على المستوى الدولي" و"اساءت الى صورتها في الخارج".لكن هناك ايضا" في اوساط المحافظين من يقول بأن ما يسمى تشدد احمدي نجاد وثباته وعدم تردده في الدفاع عن برنامج ايران النووي ليس السبب في العقوبات او في محاولات العزل والتهديد .فالرئيس خاتمي  رفع شعار "حوار الحضارات" ودعا الى التفاهم ورفض مقولة الموت لأميركا وأشاد بالشعب الاميركي وبثورته وحضارته وقبل بوقف تخصيب اليورانيوم في اثناء التفاوض مع الاوروبيين... ومع ذلك وُضعت ايران في محور الشر، وتعرضت الى العقوبات،والى التهديد المستمر بالضربة العسكرية خاصة بعد احتلال العراق.فالمشكلة اذا" في السياسات الاميركية وليست في سياسات الرئيس الايراني.
ويمكن اختصار المشهد الداخلي بالتباين في الرؤى حول المرحلة المقبلة التي تواجهها ايران أكثر من التباين حول المشروع الاقتصادي-الاجتماعي للمرشحين.فهناك حتى من بين صفوف المحافظين المعتدلين،من يرى في أحمدي نجاد عائقا" امام استثمار فرص الحوار مع الولايات المتحدة التي بادر اليها أوباما.في مقابل التيار الاصولي المحافظ المتحالف مع الحرس الثوري الذي يعتقد ان سياساته اجبرت الولايات المتحدة على تقديم عروض الحوار وسحب خيار الضربة العسكرية.وأن المضي في السياسات نفسها سيجبر واشنطن على تقديم المزيد من التنازلات. ويرى بعض هؤلاء المحافظين ايضا" ان المحادثات مع واشنطن ستقود الى تصدع ايديولوجي داخل النظام،وتضعف خيار الممانعة...بينما يرى المحافظون المعتدلون –الذين يدعمون مير حسين موسوي- أن الخطر الاساس على النظام يأتي من داخله وليس من الخارج...
إن اخطر ما جرى على المستوى الداخلي هو نزول عشرات الالاف الى الشوارع في العاصمة طهران للاحتجاج على الانتخابات بعد التشكيك في شرعية نتائجها.وما حصل في اثناء تلك التظاهرات من محاولات لمنعها من جانب قوات الحرس الثوري وقوات التعبئة (الباسيج ) فسقط قتلى وجرحى من المتظاهرين،وما أعقبها من اعتقالات ،ما زاد من غضب الشارع ومن التركيز الاعلامي الخارجي على ما يحصل في الشارع الايراني.
لم يكن اعتراض من نزلوا الى الشارع يقتصر على الشأن الانتخابي فقط. بل كان الأمر مزيجا" من انواع شتى من "الاعتراضات": على الواقع المعيشي الصعب، وعلى الضغوط الاجتماعية،واعتراض من الجيل الشاب خصوصا" الذي ولد بعد الثورة على الوضع القائم الذي لا يعجبه ويريد تغييره من دون أي وضوح في طبيعة هذا التغيير.كما نزل الاصلاحيون الى الشارع للاعتراض على نتائج الانتخابات لأنها ستتيح لهم العودة بقوة الى الحياة السياسية بعدما تراجعت شعبيتهم كثيرا" إثر فشل تجربة الرئيس خاتمي.ولا يُخفى ان وضعا" مماثلا" من الاضطراب سيكون فرصة ثمينة لأي قوة داخلية او خارجية تريد إضعاف النظام أو إطالة أمد عدم الاستقرار.
كانت الانتخابات وما جرى قبلها من مناظرات تجربة مهمة في "ديمقراطية" النظام الاسلامي في ايران. لكن ما جرى بعدها تحول الى أزمة سياسية كبيرة كادت تطيح الاستقرار في البلاد وتصدع النظام نفسه.
شعرت الادارة الاميركية بداية بالحرج والارتباك من نتائج الانتخابات بعدما عمت اخبار الاعتراضات الشعبية  وسائل الاعلام العالمية. فواشنطن من جهة لا تريد إغضاب طهران في الوقت الذي تدعوها فيه الى الحوار والتعاون لحل المشكلات الاقليمية ،ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تجاهل ما يجري في الداخل الايراني من تظاهرات وصدامات وتشكيك بنتائج الانتخابات.. لذا بدأت تصريحات أوباما حذرة تجاه ما يجري ثم أصبحت تدريجا" مع استمرار التظاهرات أكثر تشددا".وصولا" الى إجماع الكونغرس على اصدار قرار "بدعم الشعب الايراني". لكن ما جرى في ايران كشف ان الرهان الخارجي على  التغيير الجذري هو رهان غير واقعي على الرغم من حجم الاعتراض الشعبي الواسع على نتائج الانتخابات.فكل قادة الاعتراض من الاصلاحيين هم اصلا" من ابناء هذا النظام وليس من بينهم من يجاهر بالرغبة في قيادة التحركات الشعبية بغض النظر عن النتائج التي قد تؤدي اليها من مواجهات أو اراقة دماء،أو فوضى... لا يستطيع أحد السيطرة عليها. ولذا تراجع قادة التظاهرات والمرشحون المعترضون عندما تحدث قائد الثورة ووضع القانون سقفا" للاعتراض على نتائج الانتخاب والسماح بالتظاهر، لتنتقل الأزمة بعدها من الشارع الى مؤسسات النظام السياسية.   .
السؤال الذي يطرحه المهتمون بما يجري في ايران اليوم هو هل سيتأثر موقع ايران ودورها الاقليمي بما جرى في شوارع طهران بعد الانتخابات الرئاسية العاشرة؟ بمعنى هل سيتراجع نفوذ ايران الاقليمي اذا اضطرت القيادة الايرانية الى الانصراف الى معالجة مشاكلها الداخلية التي طاولت حتى قيادتها السياسية العليا؟ وهل ستخرج ايران أكثر قوة أم أكثر ضعفا" من هذه الأزمة التي لم تشهد لها مثيلا" منذ انتصار ثورتها قبل ثلاثين عاما؟ وهل ستستمر الولايات المتحدة في دعواتها الى الحوار مع رئيس "مشكوك " في شرعية انتخابه؟
يبدو ان حاجة واشنطن الى الحوار مع طهران لحل المشكلات الاقليمية من أفغانستان الى فلسطين الى العراق سترغم الرئيس أوباما على العودة الى دعوات الحوار بغض النظر عن الرئيس الفائز في ايران. ولعل ادراك أوباما لهذه الحاجة هو الذي جعله شديد التحفظ تجاه إعلان مواقف التدخل او دعم المتظاهرين والاصلاحيين علانية،كما كان يرغب بعض اركان ادارته.
ولعل ايرن ادركت بسرعة مثل هذا التشكيك بتراجع دورها الاقليمي،فعمدت الى اجراء مناورات جوية في اثناء المواجهات مع المتظاهرين لتقول للعالم  ان عين "الجمهورية الاسلامية" لا تزال على التهديدات الخارجية ،وأن ما يجري في الداخل لن يبدل اولوياتها الاقليمية.
وتبدو أزمة الادارة الاميركية مع اعادة انتخاب احمدي نجاد في مقاربتها لعملية السلام وللاولويات التي وضعتها لتلك العملية. فمن المعلوم ان التباين الاميركي- الاسرائيلي هو حول اولويات الخطوة الاولى والاتجاه الذي ستسير فيه. إذ يصر نتنياهو على ان تكون تلك الخطوة باتجاه ايران لمحاصرة برنامجها النووي ومنعها من امتلاك القنبلة التي ستشكل خطرا" استراتيجيا" ووجوديا" على اسرائيل كما يكرر قادة اسرائيل.في حين يرى اوباما ان الخطوة الاولى يجب ان تكون من اسرائيل بالاعتراف بحل الدولتين الذي سيطمئن العرب الى بداية الحل ويقطع الطريق على ايران التي يزداد نفوذها في الشرق الاوسط  كلما تأخرت التسوية السلمية..ولذا إن عودة احمدي نجاد مرة ثانية الى الرئاسة في ايران ستربك حسابات اوباما الذي كان يفضل بطبيعة الحال رئيسا" جديدا" اكثر استعدادا" للحوار ومواقفه أقل تشددا". وقد انتقد  مير حسين موسوي احمدي جاد بسبب تشدده واساءته لصورة ايران الخارجية واعلن استعداده للقاء الرئيس الاميركي. وكان يكفي ان يظهر موسوي مثل هذه المواقف حتى يكون رهانا" مفضلا" للغربيين وللولايات المتحدة. وهذا ما يمكن ملاحظته بشكل لافت في الصحافة الغربية الاوروبية والاميركية التي اعتبرت اعادة انتخاب احمدي  نجاد مأزقا" لاستراتيجية اوباما في المنطقة. ولعل هذا ما يفسر الانحياز السريع ايضا" لهذه الصحافة وللمسؤولين الغربيين الى جانب المعترضين على انتخاب احمدي نجاد من الايرانيين.
في كل الاحوال لم يكن ما جرى في شوارع طهران أمرا" عاديا" بل أزمة كبيرة استطاع النظام الاسلامي تجاوزها بكلفة عالية من المواجهات الامنية والسياسية، وقد اتاحت هذه الأزمة للكثيرين التشكيك في صدقية هذا النظام بعدما كانت كل تجارب الانتخابات السابقة تحسب له وتصب في رصيد قدرته على ادارة التنوع السياسي والديمقراطي في البلاد.
لقد انتهت الأزمة. لكن ما جرى سيترك بصماته بكل تأكيد ليس على القوى السياسية المختلفة بل وعلى المجتمع الايراني كله بحيث يفترض ان نراقب لمعرفة كيف ستكون معالم المرحلة المقبلة في ايران والى أي مدى يمكن القول ان "الجمهورية الاسلامية" دخلت مرحلة جديدة في تاريخها؟

No comments:

Post a Comment