Saturday, August 1, 2009

ثوابت السياسة الاميركية وتحولاتها تجاه ايران

ربما لا يعرف الكثيرون ان الولايات المتحدة هي التي بادرت الى قطع علاقاتها الديبلوماسية مع ايران . ولم يكن السبب انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 والاطاحة بمحمد رضا بهلوي شاه ايران وحليف واشنطن الأقوى في منطقة الخليج والشرق الاوسط. بل كان سبب القطيعة من الجانب الاميركي هو احتجاز الرهائن في السفارة الاميركية لمدة 444 يوما" بعدما اطلق "الطلاب السائرون على نهج الامام" على تلك السفارة "وكر التجسس". حاولت ادارة كارتر  حل أزمة الرهائن بالقوة العسكرية لكنها فشلت.ومن بعد ذلك التاريخ قطعت العلاقات الديبلوماسية مع الجمهورية الفتية ردا" على الاهانة التي تعرضت  لها ديبلوماسية القوة العظمى التي لم يكن احد في ذلك الوقت يجرؤ على تحديها بتلك الطريقة.
 
المهم ان العلاقة بين البلدين بدأت متوترة وانقطعت على المستوى الديبلوماسي منذ ثلاثين عاما". ولم يقتصر الأمر على ذلك بل قامت الولايات المتحدة بمحاصرة ايران وفرضت عليها عقوبات عدة في مجالات كثيرة تجارية واقتصادية وعسكرية ونفطية وسواها. وقد شهدت هذه العلاقة بين الطرفين حالات من المد والجزر ومن التصعيد والتهدئة ومن الاتهامات المتبادلة ومن التهديد بالمواجهة العسكرية...لكن المواجهة المباشرة لم تحصل ولا المصالحة الفعلية حصلت ايضا". وها نحن نشهد تحولا" في السياسة الاميركية مع الرئيس أوباما الذي دعا حتى قبل انتخابه الى الحوار مع ايران. وهي دعوة جديدة تخالف كل سياسات الادارات السابقة التي لم تفعل سوى فرض العقوبات والتلويح ب"الخيار العسكري".
ما الذي تبدل ؟ هل هي السياسات الايرانية التي اصبحت أقل تشددا" ام هي السياسات الاميركية التي باتت اكثر حاجة للتعاون مع الآخرين في حل المشكلات الاقليمية أم ان الرئيس اوباما يريد ان يتخلص من الارث الثقيل الذي تركه له سلفه جورج بوش؟ الاسئلة تتوالى واهميتها لا تقتصر على ما يمكن ان يحصل بين ايران والولايات المتحدة ، لأن الشرق الاوسط كله سيتأثر بمستقبل تلك العلاقة . ومن خلال الابصار الشاخصة الى تطور العلاقات الاميركية الايرانية يمكن ان نلاحظ الاهمية والمخاوف الاستراتيجية التي ينظر من خلالها الكثيرون في المنطقة والعالم الى مستقبل العلاقات الايرانية –الاميركية.
لقد فقدت الولايات المتحدة بسقوط الشاه عام 1979 أحد اضلاع المواجهة مع النفوذ السوفياتي في الشرق الاوسط. فقد كانت ايران الى جانب تركيا والمملكة السعودية مثلث التعاون لتطويق النفوذ السوفياتي"الشيوعي"، ومنعه من الاقتراب من منطقة الخليج والمياه الدافئة والنفط الذي لا تسمح الولايات المتحدة لأي قوة اقليمية او دولية ان تتحكم لوحدها في انتاجه او تصديره .
كانت ايران على الدوام موضع اهتمام خاص في المنظور الاستراتيجي الاميركي. فهي بالنسبة الى نيكسون "جسر يربط بين الشرق والغرب، او بين آسيا وافريقيا واوروبا. وهي بالنسبة الى روزفلت "الجسر تجاه النصر" عندما كان الحلفاء يبذلون الجهود الجبارة لمواجهة المانيا الهتلرية.وايران بموقعها الجغرافي-السياسي والاستراتيجي  تشكل مدخلا" رئيسيا" لمنطقة الشرق الاوسط، لا تستطيع أي قوة لها مطامع او مصالح في هذه المنطقة ان تتجاهلها.وهي تتحكم بمضيق هرمز الذي يعتبر حلقة الوصل والاتصال الوحيدة بين مياه الخليج والمحيط الهندي حيث  يعبر يوميا" نحو خمسين ناقلة نفط الى العالم . وقد ازداد اهتمام العالم بايران بعد تغير نظامها ، وبعدما خرجت من التبعية للسياسة الاميركية وباتت مستقلة في سياساتها عن واشنطن وعن الاتحاد السوفياتي السابق وحتى عن الاتحاد الاوروبي . ما جعل العلاقة معها اكثر تعقيدا" من دول المنطقة الاخرى ، اصدقاء الولايات المتحدة تاريخيا" .خاصة وان ايران  بادرت الى اعلان التزامها قضية فلسطين وقضايا المقاومة المتعارضة مع المصالح الاميركية والاسرائيلية في الشرق الاوسط. ومنذ ذلك التاريخ بات التوتر سمة العلاقات الاميركية –الايرانية .
 حاولت الولايات المتحدة الاستفادة من ايران ومن موقعها الاستراتيجي للتمدد نحو الشرق الاوسط ومنطقة الخليج.فعملت منذ عام 1943 للحصول على امتيازات نفطية وعلى ربط اقتصاد ايران بالولايات المتحدة من خلال المعاهدات و الاتفاقيات التجارية غير النفطية التي تضمنت استيراد معظم ما تحتاجه ايران في الاستهلاك والتصنيع والخدمات المختلفة ،و التي شكلت ما نسبته نحو 70 الى 80 في المئة من المجموع الكلي للاستيراد الايراني من الخارج. وهكذا باتت الولايات المتحدة حرصة على امن ايران واستقرارها نظرا" لتعاظم مصالحها المباشرة الاقتصادية والاستراتيجية في هذا البلد .
كان من الطبيعي ان تقف الولايات المتحدة الى جانب شاه ايران في سياساته الداخلية الاقتصادية والامنية في الوقت الذي كان يقف فيه الشاه الى جانب المصالح الاميركية في المنطقة .
إن معظم الترتيبات والاتفاقيات التي حرصت الولايات المتحدة على عقدها مع ايران الشاه كانت ترمي الى :الدفاع عن المصالح الغربية في منطقة الخليج،والحفاظ على الاستقرار الاقليمي الذي يعني منع أي تهديد سوفياتي للنفوذ الاميركي ولحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وضمان وصول الامدادات النفطية الى العالم الغربي.ويقول احد المسؤولين الاميركيين في مجلس الشيوخ عام 1973:" أعتقد ان وجود اسرائيل قوية مثل وجود ايران قوية يعد أمرا" حيويا" للمصالح الاميركية في الشرق الاوسط والخليج الفارسي". وستكون هذه الاهداف ،الى التعاون الايراني-الاسرائيلي، موضع الخلاف الاميركي مع النظام الاسلامي الجديد منذ عام 1979.
مع انتصار الثورة التي قام بها رجال الدين بقيادة الامام الخميني ظنت الولايات المتحدة انها ستحافظ على علاقاتها التاريخية والاستراتيجية مع ايران لمواجهة العدو المشترك ،أي الشيوعيىة ومن خلفها الاتحاد السوفياتي "الكافر".لكن سرعان ما تبين خطأ الرهان الاميركي على التغير الذي حصل في ايران.فقد رفعت الثورة الجديدة شعارات الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية . وكان المقصود بذلك الاستقلال عن السياستين الاميركية والسوفياتية وليس الالتحاق بأحدى القوتين العظميين في ذلك الوقت. كما لم يتردد قائد الثورة الامام الخميني في إعلان المواقف المنددة بالسياسات الاميركية والاسرائيلية في المنطقة، بعدما تبى علانية الدفاع عن الشعب الفلسطيني وعن مقاومته ضد الاحتلال الاسرائيلي وأقفل إثر انتصار الثورة مباشرة السفارة الاسرائيلية في طهران لتصبح منذ ذلك اليوم أول سفارة لفلسطين في العالم.ومع احتجاز الرهائن في السفارة الاميركية ستبدأ مرحلة جديدة في العلاقات الاميركية-الايرانية هي مرحلة القطيعة والتوتر.ومع هذه المرحلة ستعتبر الولايات المتحدة ان النظام في طهران هو نظام معاد ويشكل تهديدا" للاستقرار في الشرق الاوسط، ولعملية السلام العربية-الاسرائيلية (التي اعلنت ايران معارضتها لها)، وستتهم واشنطن طهران بدعم الارهاب،وبالسعي لامتلاك اسلحة الدمار الشامل.وطوال العقود الثلاثة الماضية الى اليوم ستبقى هذه التهم هي نفسها التي توجهها الادارات الاميركية المتعاقبة الى النظام الاسلامي في ايران. وستعمد هذه الاداات الى "ثوابت" العقوبات، والتهديد. ولكنها ستلجأ في مراحل متأخرة ،بعد التورط الاميركي في العراق وأفغانستان منذ عام 2003، الى الدعوة الى الحوار من دون ان يعني ذلك أي تغيير استراتيجي في علاقات البلدين.
 تباينت الرؤى الاستراتيجية الاميركية في التعامل مع ايران،بين اتجاهات ثلاثة:
-         الاول يريد ممارسة اقصى الضغوط لتغيير سلوك النظام الايراني . ولا يخفي اصحاب هذا الاتجاه رغبتهم في خلق الاضطرابات الداخلية والازمات والتطويق العسكري "قوة الانتشار السريع" في منطقة الخليج.لإرغام النظام في ايران  على الاستجابة لمتطلبات المصالح الاميركية وعدم إثارة المشكلات في وجه هذه المصالح او في وجه حلفاء الولايات المتحدة

-         الاتجاه الثاني كان يعتقد ان ان الديبلوماسية والاساليب السياسية يمكن ان تحقق نتائج افضل من التهديد العسكري في العلاقة مع النظام الجديد.

-         الاتجاه الثالث هو مزيج من الاتجاهين السابقين. فقد اعتمدت ادارة كلينتون على سبيل المثال طوال حقبة التسعينيات "الاحتواء المزدوج" تجاه ايران.اي منع ايران من ان تتحول الى قوة اقليمية وفي الوقت نفسه عدم تصعيد الامور معها الى حد المواجهة العسكرية المباشرة. وقد ساعد هذا الاتجاه الحرب العراقية- الايرانية التي انهكت ايران في الثمانينيات وجعلتها أكثر ميلا" للتهدئة مع العالم الخارجي في حقبة الرئيس رفسنجاني الذي اتجه نحو اعادة الاعمار والبناء واعادة العلاقات الديبلوماسية مع العالم الخارجي في التسعينيات. هكذا سيستمر الاحتواء المزدوج لايران والعراق الى حين وصول المحافظين الجدد عام 2000 مع الرئيس جورج بوش الابن لتتحول بذلك الاتجاهات الاميركية تجاه ايران الى اتجاه واحد هو التهديد والتلويح بالخيار العسكري في ظل ادارة اعتمدت استراتيجية الحرب الشاملة على الارهاب والحرب الاستباقية وتغيير "بنى وهياكل الشرق الاوسط"، وقامت بحربين مدمرتين احتلت إثرهما بلدين كبيرين هما أفغانسنان والعراق المجاورين لايران.

قضايا الخلاف الاميركي-الايراني:
الى اتهام طهران بدعم الارهاب ،(حركات المقاومة) ومعارضة عملية السلام في الشرق الاوسط،حاولت الولايات المتحدة ان تجعل من البرنامج النووي الايراني خطرا" استرتيجيا" وشيكا" على الأمن الاقليمي وعلى الاستقرار العالمي. فبدأت منذ منتصف التسعينيات حملة  "بطيئة" ضد هذا البرنامج لم تلبث ان تصاعدت مع بداية الحرب الاميركية المفتوحة على الارهاب عام 2001 لتصل الى اقصى التصعيد بعد احتلال العراق عام 2003. حيث جعلت واشنطن من استمرار تخصيب اليورانيوم مشكلة كبيرة دونها التهديد بالحرب كما فعلت مع العراق.لكن التهديد بالعقوبات لم يكن جديدا" على واشنطن .فقد لجأت اليه منذ انتصار الثورة مباشرة.. فاعتبرت عام 1984 ايران دولة مؤيدة للارهاب. وفي عام 1986 حظرت تصدير أية مادة في لائحة الاعتدة في الحربية الاميركية الى البلدان المدرجة على لائحة الارهاب. وفي عام 1987 تم حظر استيراد السلع الايرانية الى الولايات المتحدة بمرسوم رئاسي.وفي عام 1992 صدر في نهاية عهد جورج بوش الأب "قانون "الحد من انتشار الاسلحة الى ايران والعراق منعا" لتجهيز ايران بتكنولوجيا الاستخدام المزدوج.وهذا القانون مهد لسياسة "الاحتواء المزدوج".وفي عام 1995 منعت شركة "كونوكو" من توقيع اتفاقية مع شركة النفط الايرانية . وأصدر الرئيس كلينتون مرسوما" رئاسيا" في 15 اذار/مارس 1995 حظر بموجبه الاستثمار الاميركي في قطاع الطاقة في ايران. وفي ايار/مايو من العام نفسه 1995 صدر مرسوم رئاسي ألغى كل انواع التجارة والاستثمار وكل تفاعل بين ايران واميركا... ومنذ ذلك التاريخ الى اليوم 2009 لم تكف الولايات المتحدة وحلفاؤها (الاتحاد الاوروبي) عن بذل الجهود المختلفة، من الديبلوماسية والتفاوض،  الى العقوبات والتهديد بالحرب، ثم الدعوة الى الحوار... من اجل وقف البرنامج النووي الايراني خشية تحوله الى برنامج نووي عسكري يتيح لايران الحصول على القنبلة النووية. وفي المقابل عمدت ايران ايضا" الى سياسات مختلفة تراوحت بدورها بين المد والجزر وبين الليونة والتشدد. ففي عام 2003 تزامن احتلال العراق والهجوم الاميركي القوي الاقليمي والدولي مع وصول السيد محمد خاتمي الى سدة الرئاسة في ايران. وهو صاحب الدعوة الى حوار الحضارات والسلام العالمي. وقد وافق الرئيس خاتمي مع هذا الهجوم الاميركي غير المسبوق على المنطقة على وقف تخصيب اليورانيوم وعلى توقيع البروتوكول الاضافي الذي يسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش المنشآت النوية الايرانية في أي وقت.ومع ذلك لم تبدل واشنطن استراتيجيتها الثابتة في فرض العقوبات للضغط على النظام الاسلامي وإرغامه على التراجع ووقف التخصيب والقبول بالمبادرات الاوروبية التي تعرض عليه.فبعدما وضعت ايران في "محور الشر" إثر الهجوم الاميركي على أفغانستان ،تابعت الولايات المتحدة محاولات تطويق طهران من خلال العقوبات التي صدرت عبر قرارات دولية من مجلس الامن بين اعوام 2006 و2007  ،لتضييق الخناق على النشاط النووي الايراني.ولكن رغم تلك العقوبات وتأثيراتها الاقتصادية السلبية،لم تتراجع ايران عن نشاطها النووي. بل عمدت الى زيادة المفاعلات واجهزة التخصيب .
الآ ان التغير اللاحق حصل على "الجبهتين" الايرانية والاميركية في وقت واحد. فعندما بدأت فيه واشنطن تعاني من أزمة احتلال العراق وتجد صعوبة كبيرة في السيطرة عليه بعد عام 2005 انتخب الايرانيون الرئيس احمدي نجاد الشخصية التي تنتمي الى الاصوليين المحافظين .ولتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من التصريحات ومن التهديدات المتبادلة الايرانية والاميركية التي انضمت اليها اسرائيل مبكرا" لتجعل من البرنامج النووي الايراني خطرا" وجوديا" ينبغي ازالته والتخلص منه "بكل الوسائل" بما في ذلك الخيار العسكري.وقد تواصلت هذه البيئة من التهديدات المتبادلة الايرانية-الاسرائيلية من ادارة المحافظين الجدد الى ادارة اوباما الحالية.
بين الحرب المباشرة وزعزعة الاستقرار:
مع مجئ الرئيس أوباما شاع مناخ من التفاؤل في الاوساط الاقليمية والدولية .لأن الرئيس الجديد قدم حتى قبل انتخابه ما اعتبر استراتيجية جديدة في مقاربة أزمات المنطقة من افغانستان الى العراق وايران. فأكد على ضرورة الانسحاب من العراق، وعلى حل الدولتين في فلسطين ، في حين مد يد الحوار الى ايران. لكنه اصر بالمقابل على تحقيق النصر في افغانستان. وهكذا رأى الكثيرون ان مرحلة جديدة قد بدأت. وان مرحلة جروج بوش قد طويت. وان عهد التعاون الدولي بين الولايات المتحدة والقوى الأخرى الدولية والاقليمية سيساهم في خفض التوتر وفي البحث الجدي عن حل الازمات. وتأكيدا" لهذا التوجه الجديد قام اوباما في اكثر من مناسبة بتوجيه الرسائل الى العالم الاسلامي من تركيا ومن القاهر ة يدعو فيها الى التعاون والى تجاوز تجربة الماضي السلبية. لكن أوباما لم يهمل في الوقت نفسه التركيز على ان المعركة ليست مع الاسلام كدين بل مع المتشددين الاسلاميين الذين يجب محاربتهم بالتعاون بين "المسلمين المعتدلين" والولايات المتحدة والقوى الدولية الاخرى.
تحدث اوباما في رسالته التى وجهها الى ايران بمناسبة عيد النوروز لأول مرة عن الجمهورية الاسلامية، وعن القيادة والشعب في ايران. وهي مصطلحات لم ترد سابقا" في اي من خطابات المسؤولين الاميركيين. بل كان الخطاب الرسمي الاميركي يميز بين المنتخبين (الاصلاحيين) وبين المعينين (المحافظين). ولا يذكر الجمهورية الاسلامية على الاطلاق لاعتقاده بأن النظام غير مستقر ويجب العمل لتغييره. لذا كان ما قاله اوباما مثابة توجه جديد أوحى بأن استراتيجية جديدة جدية وفعلية قد بدأت. لكن الرد الايراني وعلى لسان قائد الثورة مباشرة ربط الرد على دعوة الحوار الاميركية بتغيير السياسات المعادية لطهران مثل وقف العقوبات او رد الاموال المجمدة في البنوك الاميركية او ايجاد الحلول العادلة للشعب الفلسطيني. هكذا بقيت دعوة اوباما للحوار مجرد شعار لم يتحول الى سياسة فعلية تجاه ايران.
لم تكن مشكلة الحوار مع ايران ، ومشكلة برنامجها النووي قضية معزولة عن ملفات المنطقة الاخرى.ولم يكن بمقدور اوباما أصلا" ان يفصل بين هذه الملفات.ففي الوقت الذي اراد فيه ان يثبت للعرب رغبته في التقدم على المسار الفلسطيني من خلال حل الدولتين، كان رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يريد ان يعالج مشكلة ايران اولا". لأن البرنامج النووي الايراني هو "خطر وجودي" على الدولة العبرية.اي ان السياسة الاميركية وجدت نفسها بين أولويتين لم تعرف كيف تقدم واحدا" على الآخر. فنتنياهو يرفض التفاوض لحل الدولتين ويريد التطبيع الشامل مقابل وقف الاستيطان في حين تريد ايران ما يثبت تغيير السياسات  الاميركية تجاه المصالح الايرانية في الشرق الاوسط .
 كان من الواضح ان ادارة اوباما قد تراجعت عن التلويح بالحرب ضد ايران. ولا يعود ذلك فقط الى خيارات اوباما الجديدة، بل الى فشل الادراة السابقة في الحروب التي خاضتها في العراق وافغانستان ولبنان ...والتي كبدت هذه الادارة ألوف المليارات وساهمت في انفجار الازمة المالية الاميركية-العالمية. لذا لم يكن امام اوباما أي فرصة للتلويح مجددا" بخيار الحرب ضد ايران. لكن اللافت ان التهديدات الاسرائيلية استمرت لمواجهة البرنامج النووي الايراني. باعتبار ان القضاء على هذا البرنامج هو اولوية وجودية للدولة العبرية.
لم يتمكن اوباما بعد اكثر من ثمانية اشهر على ولايته من احراز أي تقدم على اي  من مسار الازمات في الشرق الاوسط. فبدأ الهمس "الاستراتيجي" حول مراوحة السياسة الاميركية مكانها.وحول عجز الرئيس الجديد عن إحداث التغيير المطلوب. لا بل كشفت مواقف بعض اركان الادارة ترددا" وتناقضا" في التعامل مع تلك الازمات.في اشارة الى  نائب الرئيس جو بايدن الذي اعتبر ان اسرائيل دولة ذات سيادة ولها الحق باتخاذ ما تراه مناسبا" للرد على التهديد النووي الايراني. في حين قال الرئيس اوباما نفسه "أن الولايات المتحدة لم تعط الضوء الاخضر لاسرائيل لشن حرب على ايران".أثارت تلك التصريحات القلق في داخل ايران وخارجها.ولم يتردد الرئيس الايراني احمدي نجاد وكذلك المسؤولين الآخرين في اطلاق التصريحات المقابلة التي تهدد وتتوعد اسرائيل بحرب مدمرة اذا فكرت في شن الهجوم على ايران...          
في الوقت الذي كانت التقديرات الاستراتيجية تبحث احتمالات المواجهة العسكرية الايرانية –الاسرائيلية باعتبار ان الولايات المتحدة لن تقدم على مواجهة مماثلة حصلت الانتخابات في ايران .وبدلا" من تفتح هذه الانتخابات صفحة جدية تمهد لعلاقات اكثر استقرارا" او لحوار مع الولايات المتحدة اعادت نتائج الانتخابات التوتر بين البلدين بعدما انقسم الايرانيون حول صحة نتائجها ووقفت الادارة الاميركية الى جانب احد طرفي الخلاف كما كشفت بذلك وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في 10/8/2009 عندما أقرت لشبكة "سي أن.أن" أن بلادها بذلت "جهدا" كبيرا" في الكواليس لدعم المعارضين في ايران، من دون ان نضع انفسنا بينهم وبين النظام.ونحن نواصل دعم المعارضة".(الاخبار 10/8/2009)  .
تحولت الانتخابات الرئاسية الايرانية الى  أزمة اخرى جديدة بين واشنطن وطهران. فقد  سارعت الادارة الاميركية الى التشكيك بنتائج الانتخابات ثم بقمع المتظاهرين ثم الدفاع عن الديمقراطية ...في حين وجهت طهران الاتهام الى الاميركيين والاوروبيين بالتدخل المباشر في دعم الاصلاحيين وفي زعزعة الاستقرار في الداخل الايراني. وفي حين شكك كثيرون في داخل ايران وخارجها بهذه التهمة ، اتت تصريحات كلينتون لتؤكد ما نسب الى ادارتها من تدخل .ولم يقتصر امر الاتهام على مجرد التدخل من جانب القيادة الايرانية بل كانت التهمة اشد خطورة:"الثورة الملونة" على غرار الثورات الأخرى التي دعمتها الولايات المتحدة في أوكرانيا وجورجيا وبلغاريا وسواها من اجل تغيير النظام والمجئ بحلفاء الولايات المتحدة.
هكذا تراجعت بيئة التفاؤل التي رافقت مجئ اوباما.وعاد التوتر المتبادل الى المواقف والتصريحات الاميركية والايرانية.وفي حين لم يكترث الرئيس احمدي نجاد في حفل تنصيبه الى غياب رسائل التهنئة التي لم تصله من العواصم الاميركية والغربية ، ظهر تلعثم الادارة الاميركية في التعامل مع الرئيس المنتخب مرة ثانية في تأييد هذا التنصيب والاعتراف بأحمدي نجاد رئيسا لايران ثم التراجع مباشرة عن ذلك ،بما يعكس حجم الارتباك والتردد في السياسات الاميركية تجاه ايران. أي ان الادارة الحالية تتأرجح بين  الثبات في مد يد الحوار لحاجة الولايات المتحدة الى التعاون مع طهران في ملف افغانستان والعراق ومن اجل متابعة ما يجري في ملفها النووي، وبين العودة مجددا" الى سياسة فرض العقوبات القاسية ...ومن يدري ربما العودة مجددا" الى التلويح بالخيار العسكري الذي طالما تحدث عنه جورج بوش وأشار مساعدوه دائما" الى وجوده على طاولة الرئيس ...
في كل الاحوال لا تزال ايران حاجة الى الرئيس الاميركي الذي يريد "الانتصار" في أفغانستان، ويريد تحقيق السلام في الشرق الاوسط والانسحاب من العراق.لكن ايران التي ترغب ايضا" في الاعتراف بنظامها وبدورها الاقليمي وبنفوذها ومصالحها الامنية والاقتصادية والسياسية لم ترفض فكرة الحوار من اساسها بل طلبت تغييرالسلوك الاميركي الذي يؤكد الرغبة في الحوار.
وفي هذا المجال يقترح السيناتور الاميركي جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الاميركي "خارطة طريق" لعلاقات أفضل وطبيعية بين ايران والولايات المتحدة. على :"أن تقوم ايران باحترام معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية التي وقعت عليها NPT .وأن تدخل في ترتيبات مع روسيا والصين والمجموعة الاوروبية والولايات المتحدة بفهم واضح حول كيفية المضي قدما" الى الامام لتطوير التنمية النووية.ما يسمح بدوره بالتوصل الى المسائل الأكبر مثل ترتيبات أمنية ضد نشر "الطالبانية" وضد تصدير المخدرات من أفغانستان، وحول الاستقرار الاقليمي وحول التنمية.وهذا يمكن من المضي الى الامام بصورة أقل مواجهة وبصورة مفيدة اقتصاديا" للجميع وبناءة اقليميا".وبرأي كيري :"لا يوجد سبب لعدم تمكننا من ايجاد الاحترام المشترك مع دولة لها تاريخ كإيران بكل قدراتها.(الحياة 18/5/2009).
لكن في الفترة نفسها  حددت واشنطن وحلفاءها الاوروبيين بداية أوكتوبر/تشرين الاول 2009 لتقييم مدى تقدم المفاوضات مع ايران (وول ستريت جورنال 19/5/2009).وقد وضع هؤلاء اهدافا" اذا لم تستجب لها طهران فإن العقوبات ستتجدد.ومن هذه الاهداف:
-         مدى استعداد طهران السماح لمفتشي الامم المتحدة القيام بحملات مفاجئة لمواقعها النووية الموجودة خارج نطاق التفتيش الحالي
-         معرفة مدى استعداد طهران للموافقة على مبدأ "التجميد" مقابل" التجميد" .أي تجميد تخصيب اليورانيوم مقابل تجميد العقوبات المفروضة على ايران.وقد أكدت وزيرة الخارجية كلينتون ان واشنطن ستفرض عقوبات اقتصادية موجعه على طهران اذا رفضت التجاوب بشأن برنامجها النووي. وهي تأمل انضمام روسيا والصين الى تلك العقوبات اذا فشلت المفاوضت مع طهران.
اذا" ثمة استعادة لخطاب الادارة الاميركية السابق  في التهديد والتلويح بالعقوبات، بالاضافة الى عروض يراها السيناتور جون كيري مدخلا" لاحترام متبادل ومشترك بين البلدين. لكنها في الحقيقة ليست المرة الاولى التي تتلقى فيها طهران عروضا" مماثلة. فقد سبق وقدمت لها الترويكا الاوروبية "سلة حوافز" لم تكن بحجم التوقعات الايرانية.
كان من المفترض ان تمهد هذه الرؤى والتصورات الاميركية مهما تراوحت مستوياتها بين التصعيد والحوافز لانطلاق عجلة الحوار الاميركي-الايراني. لكن الاعتراف بالتدخل الاميركي في الانتخابات الايرانية وفي دعم الاصلاحيين أعاد الكرة مجددا" الى الملعب الاميركي وأكد وجهة نظر المحافظين في ايران الذين يشككون في نوايا الولايات المتحدة ويطالبونها بالخطوات العملية قبل الحوار المزعوم.
لقد اعادت الانتخابات الايرانية وما جرى فيها مشروع الحوار الاميركي- الايراني الى نقطة الصفر مجددا". ما يعني ان على ادارة اوباما ان ان تبذل المزيد من الجهود لإقناع ايران برغبتها الحقيقية في التعاون والحوار بدل التدخل لدعم هذا الفريق او ذاك او  لزعزعة الاستقرار واضعاف النظام ...

No comments:

Post a Comment